كاشف
17-01-2013, 04:42 PM
لو ألقينا نظرة تأمُّلية تبحث عن العوامل الفعّالة التي تقف خلف كثير من التحولات الفكرية الحادة عند بعض النماذج والتي تنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على نحو يستعصي معه الفهم والتحليل؛ لألفينا أنها لم تنبثق من فراغ بقدر ما هي أثر حتميّ أفرزته بواعث متنوعة بينها تسلسل سببي وروابط عليّة متبادلة ومتفاعلة أسجّل باعثين هنا منها على سبيل الإجمال، مقتصداً جهد الطاقة حتى لا أثقل على ذاكرة القارئ الكريم:
أولاً: القراءة المكثفة في كتب أهل الأهواء مع ضآلة العلم الشرعي في منحاه العقدي خاصة:
إن الفضول المعرفي بطبيعته يدفع إلى مزيد من النّهم القرائي اللامنضبط ـ أحياناً ـ مما يدفع بالفرد إلى قراءة كل ما يقع في متناول يديه من أطروحات فكرية قراءةً غير موجهة بحكم عدم استنادها إلى قدرات علمية عليا، ولذا فهي تولد الاتجاه السلبي أكثر مما تعزّز التوجه السلفي كإفراز حتميّ ناشئ عن ضمور مكتسبه المعرفي في جانبه العقدي على وجه الخصوص.
إن هشاشة الوعي ومحدودية القدرات العلمية تجعل من البنية الذهنية أرضاً خصبة مهيّئة لاستقطاب الأبنية المفاهيمية والمعاني المزيفة والرُّؤى الممعنة في التضليل باعتبارها أفقاً للوعي لا يسع المرء إلا الامتياح منه والتماهي مع معطياته.
إن إثارة الشبهات والتشكيك في العقائد والإطاحة بالتصورات الإيجابية هو الهدف المحوري الذي تتغيّاه كتب ومقالات أهل الأهواء، الشأن الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمعّر وجهه عندما شاهد صحيفة من صحف أهل الكتاب مع عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو الفاروق المبشَّر بالجنة، ونهاه عن قراءتها. ولقد كان سلفنا الأفاضل يحرِّمون علم الكلام ويشدّدون في عدم السماع من أهل الأهواء أو النظر في مؤلفاتهم حتى ولو احتوت على شيء من الحق؛ لأن هذه الأطروحات تورّث شُبهاً تضلّل المتلقِّي وتستهويه وتؤثِّر على قناعاته، وهذا التأثير عائدٌ ـ في تصوّري ـ لعاملين:
أحدهما: أنها تعتمد في بنائها التعبيري والفكري آليات فلسفية ترتكز على الفذلكة الكلامية والحذاقة اللفظية لتستهوي الفكر وتأخذ بلباب العقل وتلبس عليه وتسيطر على مساربه فيتلقف بعض الشبهات دون وعي، يتلقاها بلا غربلة ولا تمحيص، تتلبّسه الفكرة ويتلبّس بها، ترتسم في عقله ويتفاعل مع أدقِّ تفاصيلها ويغنى بها عن غيرها، تكبِّله بقيودها وتحجبه عن معاينة ما باينها، وتزجُّ به في دائرة مغلقة خانقة فيسيطر عليه شعور بصوابية ما يعتنقه بل يعتبره هو الحق المطلق، ومن ثم تتعسر عليه المراجعة، وتحت هذا الضغط النفسي الشديد تستبدُّ به الفكرة فـلا يـرى إلا ما يتقاطع معها، فيندفع للعمل بمقتضاها دون وعي، إنه يعيش في غيبوبة أفضت به إلى عزلة لا مادية خانقة نائية به عن مدِّ جسور التواصل والتماس والتفاعل الحيوي مع الأفكار المغايرة لها، قد ملكت عليه لُبّه ووجدانه على نحوٍ بات معه مفتقداً للرؤية الموضوعية النافذة مثله كما المحاط بألسنة اللهب، فرؤيته محدودة محصورة في ذاته وما يحيط بها من دخان كثيف.
العامل الثاني: أنها تملك مهارات عالية وكفاءة بارعة في تمرير مشروعها الفكري، وذلك من خلال ضخِّ المعاني ذات الطابع المادي التي تدغدغ حوائج الناس وتستجيب لعواطفهم، ومن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة التي تتظاهر بالعلمية وتدّعي الموضوعية، الشأن الذي يهدينا إلى تبيّن السر الكامن خلف اتِّساع القاعدة الجماهيرية المتناغمة مع أهل الأهواء، حتى صاروا بجملتهم أكثر كمية من أهل السُّنّة والجماعة، وهذا مؤشر يبرهن ـ بجلاء ـ على أن التماهي الوجداني مع المضامين الدلالية لهذا الخطاب ليس حقيقة شعورية منبعثة من رؤية منهجية وصياغة فكرية صائبة بقدر ما هي نتيجة للانسياق للمحركات الوجدانية.
إن القارئ المتسطح الذي يعاني من الهزال في بنيته المعرفية يتعسّر عليه ـ إن لم يتعذّر ـ أن يقرأ بروح تمحيصية ناقدة، فهو لا يملك القدرة على سبر أغوار الروح العامة وتفكيك البنية الشاملة التي ينهض عليها هذا الخطاب، ولذا يقع فريسة سهلة للأفكار السالبة بكافة ضروبها، ويسيطر عليه ما يشبه عمى الألوان، فيتجاوب مع المادة المطروحة، ويتذوّقها، وتنطبع لديه في أعماق الضمير، والمصيبة الأعظم تكمن في عدم شعوره بما ينطوي عليه من إشكال معرفي حادّ سهّلَ من اختطاف عقله ومن ثم مصادرته في بُعْده الإنساني.
إن قـصـور الاستعـدادات المعرفيـة لـدى المتـلقّـي يفـضـي ـ بالضرورة ـ إلى إضعاف شخصيته الثقافية، ولذا؛ فإنه بمجرد اطِّلاعه على مجموعة مقالات أو بضعة كتب من الكتب الفارغة إلا من الغُثَاء التراكمي فإنها كفيلة بإحداث هزّة عنيفة في كيانه تعصف بما تأصّل لديه من قناعات على نحو يجعله يتنكّر لما نشأ عليه من قيم، ولا ريب أن هذا يبرهن ـ بجلاء ـ على عمق الانفصال بينه وبين الفقه العقدي من جهة، وعلى أساليب الطرح الماكرة القادرة على التسلل بسهولة إلى التركيبة الذهنية للمتلقِّي من جهة أخرى.
تُعدّ العزلة الشعورية، والنَّأْي عن النهل من العلم المؤطر بالمنهج الرباني، وعدم التفاعل المثمر مع قادة الفكر وأرباب المعرفة وذوي الحسّ الحي في الأمة، والتجافي عن المصادر المعتبرة التي تشكل الفكر الموضوعي؛ من أكبر العوامل الموهنة للتماسك العقدي والمؤسسة لتداعي المسلَّمات القطعية، والتي تحيل الفرد إلى هدف سهل المنال لمختلف الوافدات والمؤثرات الثقافية المناهضة لمكوّناته الأساسية، والمناقضة للسلّم القيمي الذي تشكّل وفق دلالاته، والمخالفة للأدوات المعيارية التي على ضوئها يقيم أحداث الحياة. هذه البواعث تعرِّض كثيراً من الأسس المفاهيمية إلى التزعزع والتآكل الداخلي.
إن هذا المتلقِّي بفعل ما يحتوي عليه من فقر علمي وجهل عميق لديه ضرب من السلوك الازدواجي الذي يتجلَّى على نحو واضح في تباين تعاطيه مع الأفكار المجسّدة والمجرّدة وتباين مواقفه إزاء كل منها، مما يشي بإمَّعية فكرية ضُربت بعمق في أعماق أغواره فأضعفت عناصر المقاومة في ذهنه فضلَّ عن الحق وتاهَ في بَيْداء الوهم والخيال كأثر حتمي لتزاوج الهوى الحاجب لصفاء الحقيقة والجهل اللامحدود الذي بفعله باتت رؤيته سطحية هامشية فاقدة للرؤية النقدية التي تعتمد التجرد والموضوعية أبرز أدواتها.
إن مما يبعث الأسى هو أن المتلقّي السالف الذِّكْر قد يكون أحياناً ممن يساهمون ـ في تصوّره ـ بإثراء الحركة العقلية ودفعها ـ لا لتأهيله لذلك، وإنما لاحتلاله مكاناً أكبر بكثير من مقاساته المعرفية والعقلية ـ وهنا تعظم المأساة، حيث إن جملة الأفكار التي تسرّبت إلى جنانه واستقرت في حسِّه وتراكمت في عقله الباطن هو الآن يتبنّى العمل على تصديرها وإنتاجها يستهدف بها متلقّياً ـ هو الآخر بالمواصفات ذاتها ـ يستلهمها فتعانق وعيه وتكتسح لُبَّه فيتقولب بمضامينها التي تتغلغل فتلامس كل جزئية من وجدانه، وهكذا تجري عملية التسويق عن طريق الاجترار بتبادل الأدوار على نحو يثير الشعور بالأسى والشّجن.
إن هذا الطرح ذا النزعة الليبرالية يعكس ـ بنقاء كامل ـ الصورة عن عقول مصادرة تتظاهر بالتحرّر والانـفتاح الـذي لا يتحقق ـ من وجهة نظرها ـ إلا بالخروج عن منطق التجانس الجمعي، واستفزاز الساكن، ومخالفة السائد، وتحريك الراكد، واختراق (التابو)، والتمرد على المقاييس والأعراف المعتبرة، واستدبار النصوص، وإسقاط مكانة العلماء، والتقليل من خصوصية المجتمع، والمبالغة في السقوط الأخلاقي بحجة التطوير والتجديد.
إن الحقيقة التي يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا دائماً هي أن التجديد لا يكمن في الإقصاء لأخلاقٍ واستدعاءِ أخرى على الضدِّ منها، وإنما يتم التجديد من خلال توسيع مدى الأبعاد الدلالية لبعض الأبنية المفاهيمية الأخلاقية، وابتكار الآليات الفعّالة لعولمتها وجمهرة ممارستها وتكثيف الدعاية لها والإعلاء من قيمتها في النَّسَق الأخلاقي العام ودفعها نحو نقلة ارتقائية تحتلُّ جراءها موقعاً أعلى في درجات السلّم القيمي.
إن ثمَّة ثلة من الكُتّاب لديهم تصور ذاتي وهمي، فهم يرون ذواتهم أنهم طليعة هذه الأمة والناطق بلسانها والمعبِّر عن آلامها وآمالها، وهم فقط الذين يملكون عناصر الترشيد الضرورية للنسيج الاجتماعي الذي استقرَّ في وعيهم أنه بخاصته ودَهْمَائه وبسُراته وبُسطائه وبتنويعاته وتعبيراته وبمكوّناته وقياداته الدينية وبفعالياته الثقافية وبرموزه العلمية؛ عبارة عن قطيع غوغائي ومزيج نَتِنٍ من الإمَّعات والسطحيين الذين يعيشون في واقع استاتيكي سكوني يغلب عليه طابع النمطية والاطّراد العشوائي على نحو يدفع هؤلاء الكُتّاب ـ من وجهة نظرهم ـ إلى الاشتغال على تهيئة بنية هذا المجتمع لخصائص جديدة، وذلك من خلال تطوير أنماط سلوكهم وتوسيع آفاقهم بعَصْرنة مفاهيمهم ولَبْرلة توجّهاتهم.
الفلسفة التي يصدر عنها الطرح الليبرالي تكمن في اختزاله كافة أشكال الرقي في البُعْد المادي المحض، وتتجلّى في طبيعته الموضوية الرافضة للماضوي والعاملة على تجسيد القطيعة المعرفية معه تمهيداً لمحوه من الأذهان ومن ثم تهميشه في عالم الواقع الفعلي، وفي سبيل هــذه الغــايــة فإنـه يلـحُّ ـ وعلى نحو مستمر ـ على جملة معانٍ محددة يتغيّا استقطابها لإذاعتها وجمهرتها على أرض الواقع العملي.
تحرير المرأة، إلغاء تعدد الزوجات، الحرية المطلقة، الثورة على التراث السلفي، تحرير العقل من سلطة النقل..إلخ؛ كلها مفردات تكتظُّ بها هذه الأطروحات على تباين جليٍّ في مستوى شفافيتها وتغاير واضح في القوالب المستخدمة لتسويق تلك الرُّؤى على نحو يضمن لها القبول والانتشار والتمدد.
إذا تبلور ما سلف وصلنا إلى نتيجة راسخة مفادُها أن رفع منسوب العلم الشرعي ـ وفي بُعْده العقدي خاصة بوصفه هو الذي يهندس الشخصية الإسلامية ويوجِّه طاقاتها ويرشد حركة معرفتها ـ شرطٌ موضوعي يلزم توفّره في كل فرد بحسبه.
وتتأكد أهمية توفّره في كل من ينزع إلى التواصل القرائي مع مختلف الأطروحات المنتمية إلى منظومات فكرية مغايرة أخرى؛ لأن العلم الشرعي بحسبه يمثِّل بنية معرفية عميقة بالنسبة للعلوم الأخرى هو الذي يكسب حامله حسَّاً نقدياً ورؤية نافذة قادرة على إزاحة الستار وإدراك ما يحتجب خلفه من منطلقات وما يكمن من خيوط دقيقة ضامرة في أعمق أغواره.
إن الإلمام بالعلم الشرعي والتشبّع بالفقه العقدي وفق منهج سلفي مطلبٌ جوهري في غاية الأهمية والإلحاح، مطلبٌ يمنح صاحبه حصانة فكرية، ويزوِّده بمناعة نفسية، ويورِّثه عزّةً وقناعة تامة بصوابية توجّهه، ويمدّه بحيوية ذهنية وقدرة فذّة على القراءة النقدية التي تضعه أمام الحقيقة الموضوعية لهذه الأفكار الوضعية التي تغذِّي أخيلة مستهلكيها بالمفاهيم الكاسدة والمتشابكة مع أسسنا الفكرية لسلّمنا القيمي المستوحى من نصوص الوحيين.
إن العمق المعرفي الشرعي هو الذي يمنح المتلقِّي عقلاً متحرّراً من علائق التبعية لكل فكر متوتر معزول عن وحي السماء، ويمكِّنه من الصيرورة إلى تملّك أفق شمولي واسع يمنحه أعظم صور البلورة النقيّة التي توقفه على حقيقة مقروئه فيعرِّي سوأته ويجلي ثغراته ويعي مدى ما تولّده من مفاسد في البنية العقلية وحجم ما تقرّه من خلل في الكينونة الثقافية.
إن التأهيل وبقدر كافٍ للذات ـ من خلال توثيق الاتصال الفعّال بمنابع الثقافة الإسلامية ـ شرطٌ يجب استدعاؤه لاستثمار معطياته بحسبانها هي من يزوّد الفرد بالنظرة العميقة المخترقة لحدود الإدراك الظاهر والسابرة لأغوار المقروء وغربلته، ومن ثم مواراة الأفكار المولدة للتصورات المغلوطة في الزوايا المظلمة من الذاكرة ليجري استحضارها في الظرف الملائم، وذلك عند إرادة تجلية مساحات التفوق وإظهار القيم الجمالية وإبراز خطوط التميّز في الفكر السلفي، والذي تتجلّى روعته الأخّاذة عند مقارنته بضدِّه، وكما قال الأول: وبضدِّها تتميّز الأشياءُ.
أولاً: القراءة المكثفة في كتب أهل الأهواء مع ضآلة العلم الشرعي في منحاه العقدي خاصة:
إن الفضول المعرفي بطبيعته يدفع إلى مزيد من النّهم القرائي اللامنضبط ـ أحياناً ـ مما يدفع بالفرد إلى قراءة كل ما يقع في متناول يديه من أطروحات فكرية قراءةً غير موجهة بحكم عدم استنادها إلى قدرات علمية عليا، ولذا فهي تولد الاتجاه السلبي أكثر مما تعزّز التوجه السلفي كإفراز حتميّ ناشئ عن ضمور مكتسبه المعرفي في جانبه العقدي على وجه الخصوص.
إن هشاشة الوعي ومحدودية القدرات العلمية تجعل من البنية الذهنية أرضاً خصبة مهيّئة لاستقطاب الأبنية المفاهيمية والمعاني المزيفة والرُّؤى الممعنة في التضليل باعتبارها أفقاً للوعي لا يسع المرء إلا الامتياح منه والتماهي مع معطياته.
إن إثارة الشبهات والتشكيك في العقائد والإطاحة بالتصورات الإيجابية هو الهدف المحوري الذي تتغيّاه كتب ومقالات أهل الأهواء، الشأن الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمعّر وجهه عندما شاهد صحيفة من صحف أهل الكتاب مع عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو الفاروق المبشَّر بالجنة، ونهاه عن قراءتها. ولقد كان سلفنا الأفاضل يحرِّمون علم الكلام ويشدّدون في عدم السماع من أهل الأهواء أو النظر في مؤلفاتهم حتى ولو احتوت على شيء من الحق؛ لأن هذه الأطروحات تورّث شُبهاً تضلّل المتلقِّي وتستهويه وتؤثِّر على قناعاته، وهذا التأثير عائدٌ ـ في تصوّري ـ لعاملين:
أحدهما: أنها تعتمد في بنائها التعبيري والفكري آليات فلسفية ترتكز على الفذلكة الكلامية والحذاقة اللفظية لتستهوي الفكر وتأخذ بلباب العقل وتلبس عليه وتسيطر على مساربه فيتلقف بعض الشبهات دون وعي، يتلقاها بلا غربلة ولا تمحيص، تتلبّسه الفكرة ويتلبّس بها، ترتسم في عقله ويتفاعل مع أدقِّ تفاصيلها ويغنى بها عن غيرها، تكبِّله بقيودها وتحجبه عن معاينة ما باينها، وتزجُّ به في دائرة مغلقة خانقة فيسيطر عليه شعور بصوابية ما يعتنقه بل يعتبره هو الحق المطلق، ومن ثم تتعسر عليه المراجعة، وتحت هذا الضغط النفسي الشديد تستبدُّ به الفكرة فـلا يـرى إلا ما يتقاطع معها، فيندفع للعمل بمقتضاها دون وعي، إنه يعيش في غيبوبة أفضت به إلى عزلة لا مادية خانقة نائية به عن مدِّ جسور التواصل والتماس والتفاعل الحيوي مع الأفكار المغايرة لها، قد ملكت عليه لُبّه ووجدانه على نحوٍ بات معه مفتقداً للرؤية الموضوعية النافذة مثله كما المحاط بألسنة اللهب، فرؤيته محدودة محصورة في ذاته وما يحيط بها من دخان كثيف.
العامل الثاني: أنها تملك مهارات عالية وكفاءة بارعة في تمرير مشروعها الفكري، وذلك من خلال ضخِّ المعاني ذات الطابع المادي التي تدغدغ حوائج الناس وتستجيب لعواطفهم، ومن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة التي تتظاهر بالعلمية وتدّعي الموضوعية، الشأن الذي يهدينا إلى تبيّن السر الكامن خلف اتِّساع القاعدة الجماهيرية المتناغمة مع أهل الأهواء، حتى صاروا بجملتهم أكثر كمية من أهل السُّنّة والجماعة، وهذا مؤشر يبرهن ـ بجلاء ـ على أن التماهي الوجداني مع المضامين الدلالية لهذا الخطاب ليس حقيقة شعورية منبعثة من رؤية منهجية وصياغة فكرية صائبة بقدر ما هي نتيجة للانسياق للمحركات الوجدانية.
إن القارئ المتسطح الذي يعاني من الهزال في بنيته المعرفية يتعسّر عليه ـ إن لم يتعذّر ـ أن يقرأ بروح تمحيصية ناقدة، فهو لا يملك القدرة على سبر أغوار الروح العامة وتفكيك البنية الشاملة التي ينهض عليها هذا الخطاب، ولذا يقع فريسة سهلة للأفكار السالبة بكافة ضروبها، ويسيطر عليه ما يشبه عمى الألوان، فيتجاوب مع المادة المطروحة، ويتذوّقها، وتنطبع لديه في أعماق الضمير، والمصيبة الأعظم تكمن في عدم شعوره بما ينطوي عليه من إشكال معرفي حادّ سهّلَ من اختطاف عقله ومن ثم مصادرته في بُعْده الإنساني.
إن قـصـور الاستعـدادات المعرفيـة لـدى المتـلقّـي يفـضـي ـ بالضرورة ـ إلى إضعاف شخصيته الثقافية، ولذا؛ فإنه بمجرد اطِّلاعه على مجموعة مقالات أو بضعة كتب من الكتب الفارغة إلا من الغُثَاء التراكمي فإنها كفيلة بإحداث هزّة عنيفة في كيانه تعصف بما تأصّل لديه من قناعات على نحو يجعله يتنكّر لما نشأ عليه من قيم، ولا ريب أن هذا يبرهن ـ بجلاء ـ على عمق الانفصال بينه وبين الفقه العقدي من جهة، وعلى أساليب الطرح الماكرة القادرة على التسلل بسهولة إلى التركيبة الذهنية للمتلقِّي من جهة أخرى.
تُعدّ العزلة الشعورية، والنَّأْي عن النهل من العلم المؤطر بالمنهج الرباني، وعدم التفاعل المثمر مع قادة الفكر وأرباب المعرفة وذوي الحسّ الحي في الأمة، والتجافي عن المصادر المعتبرة التي تشكل الفكر الموضوعي؛ من أكبر العوامل الموهنة للتماسك العقدي والمؤسسة لتداعي المسلَّمات القطعية، والتي تحيل الفرد إلى هدف سهل المنال لمختلف الوافدات والمؤثرات الثقافية المناهضة لمكوّناته الأساسية، والمناقضة للسلّم القيمي الذي تشكّل وفق دلالاته، والمخالفة للأدوات المعيارية التي على ضوئها يقيم أحداث الحياة. هذه البواعث تعرِّض كثيراً من الأسس المفاهيمية إلى التزعزع والتآكل الداخلي.
إن هذا المتلقِّي بفعل ما يحتوي عليه من فقر علمي وجهل عميق لديه ضرب من السلوك الازدواجي الذي يتجلَّى على نحو واضح في تباين تعاطيه مع الأفكار المجسّدة والمجرّدة وتباين مواقفه إزاء كل منها، مما يشي بإمَّعية فكرية ضُربت بعمق في أعماق أغواره فأضعفت عناصر المقاومة في ذهنه فضلَّ عن الحق وتاهَ في بَيْداء الوهم والخيال كأثر حتمي لتزاوج الهوى الحاجب لصفاء الحقيقة والجهل اللامحدود الذي بفعله باتت رؤيته سطحية هامشية فاقدة للرؤية النقدية التي تعتمد التجرد والموضوعية أبرز أدواتها.
إن مما يبعث الأسى هو أن المتلقّي السالف الذِّكْر قد يكون أحياناً ممن يساهمون ـ في تصوّره ـ بإثراء الحركة العقلية ودفعها ـ لا لتأهيله لذلك، وإنما لاحتلاله مكاناً أكبر بكثير من مقاساته المعرفية والعقلية ـ وهنا تعظم المأساة، حيث إن جملة الأفكار التي تسرّبت إلى جنانه واستقرت في حسِّه وتراكمت في عقله الباطن هو الآن يتبنّى العمل على تصديرها وإنتاجها يستهدف بها متلقّياً ـ هو الآخر بالمواصفات ذاتها ـ يستلهمها فتعانق وعيه وتكتسح لُبَّه فيتقولب بمضامينها التي تتغلغل فتلامس كل جزئية من وجدانه، وهكذا تجري عملية التسويق عن طريق الاجترار بتبادل الأدوار على نحو يثير الشعور بالأسى والشّجن.
إن هذا الطرح ذا النزعة الليبرالية يعكس ـ بنقاء كامل ـ الصورة عن عقول مصادرة تتظاهر بالتحرّر والانـفتاح الـذي لا يتحقق ـ من وجهة نظرها ـ إلا بالخروج عن منطق التجانس الجمعي، واستفزاز الساكن، ومخالفة السائد، وتحريك الراكد، واختراق (التابو)، والتمرد على المقاييس والأعراف المعتبرة، واستدبار النصوص، وإسقاط مكانة العلماء، والتقليل من خصوصية المجتمع، والمبالغة في السقوط الأخلاقي بحجة التطوير والتجديد.
إن الحقيقة التي يجب أن تكون حاضرة في أذهاننا دائماً هي أن التجديد لا يكمن في الإقصاء لأخلاقٍ واستدعاءِ أخرى على الضدِّ منها، وإنما يتم التجديد من خلال توسيع مدى الأبعاد الدلالية لبعض الأبنية المفاهيمية الأخلاقية، وابتكار الآليات الفعّالة لعولمتها وجمهرة ممارستها وتكثيف الدعاية لها والإعلاء من قيمتها في النَّسَق الأخلاقي العام ودفعها نحو نقلة ارتقائية تحتلُّ جراءها موقعاً أعلى في درجات السلّم القيمي.
إن ثمَّة ثلة من الكُتّاب لديهم تصور ذاتي وهمي، فهم يرون ذواتهم أنهم طليعة هذه الأمة والناطق بلسانها والمعبِّر عن آلامها وآمالها، وهم فقط الذين يملكون عناصر الترشيد الضرورية للنسيج الاجتماعي الذي استقرَّ في وعيهم أنه بخاصته ودَهْمَائه وبسُراته وبُسطائه وبتنويعاته وتعبيراته وبمكوّناته وقياداته الدينية وبفعالياته الثقافية وبرموزه العلمية؛ عبارة عن قطيع غوغائي ومزيج نَتِنٍ من الإمَّعات والسطحيين الذين يعيشون في واقع استاتيكي سكوني يغلب عليه طابع النمطية والاطّراد العشوائي على نحو يدفع هؤلاء الكُتّاب ـ من وجهة نظرهم ـ إلى الاشتغال على تهيئة بنية هذا المجتمع لخصائص جديدة، وذلك من خلال تطوير أنماط سلوكهم وتوسيع آفاقهم بعَصْرنة مفاهيمهم ولَبْرلة توجّهاتهم.
الفلسفة التي يصدر عنها الطرح الليبرالي تكمن في اختزاله كافة أشكال الرقي في البُعْد المادي المحض، وتتجلّى في طبيعته الموضوية الرافضة للماضوي والعاملة على تجسيد القطيعة المعرفية معه تمهيداً لمحوه من الأذهان ومن ثم تهميشه في عالم الواقع الفعلي، وفي سبيل هــذه الغــايــة فإنـه يلـحُّ ـ وعلى نحو مستمر ـ على جملة معانٍ محددة يتغيّا استقطابها لإذاعتها وجمهرتها على أرض الواقع العملي.
تحرير المرأة، إلغاء تعدد الزوجات، الحرية المطلقة، الثورة على التراث السلفي، تحرير العقل من سلطة النقل..إلخ؛ كلها مفردات تكتظُّ بها هذه الأطروحات على تباين جليٍّ في مستوى شفافيتها وتغاير واضح في القوالب المستخدمة لتسويق تلك الرُّؤى على نحو يضمن لها القبول والانتشار والتمدد.
إذا تبلور ما سلف وصلنا إلى نتيجة راسخة مفادُها أن رفع منسوب العلم الشرعي ـ وفي بُعْده العقدي خاصة بوصفه هو الذي يهندس الشخصية الإسلامية ويوجِّه طاقاتها ويرشد حركة معرفتها ـ شرطٌ موضوعي يلزم توفّره في كل فرد بحسبه.
وتتأكد أهمية توفّره في كل من ينزع إلى التواصل القرائي مع مختلف الأطروحات المنتمية إلى منظومات فكرية مغايرة أخرى؛ لأن العلم الشرعي بحسبه يمثِّل بنية معرفية عميقة بالنسبة للعلوم الأخرى هو الذي يكسب حامله حسَّاً نقدياً ورؤية نافذة قادرة على إزاحة الستار وإدراك ما يحتجب خلفه من منطلقات وما يكمن من خيوط دقيقة ضامرة في أعمق أغواره.
إن الإلمام بالعلم الشرعي والتشبّع بالفقه العقدي وفق منهج سلفي مطلبٌ جوهري في غاية الأهمية والإلحاح، مطلبٌ يمنح صاحبه حصانة فكرية، ويزوِّده بمناعة نفسية، ويورِّثه عزّةً وقناعة تامة بصوابية توجّهه، ويمدّه بحيوية ذهنية وقدرة فذّة على القراءة النقدية التي تضعه أمام الحقيقة الموضوعية لهذه الأفكار الوضعية التي تغذِّي أخيلة مستهلكيها بالمفاهيم الكاسدة والمتشابكة مع أسسنا الفكرية لسلّمنا القيمي المستوحى من نصوص الوحيين.
إن العمق المعرفي الشرعي هو الذي يمنح المتلقِّي عقلاً متحرّراً من علائق التبعية لكل فكر متوتر معزول عن وحي السماء، ويمكِّنه من الصيرورة إلى تملّك أفق شمولي واسع يمنحه أعظم صور البلورة النقيّة التي توقفه على حقيقة مقروئه فيعرِّي سوأته ويجلي ثغراته ويعي مدى ما تولّده من مفاسد في البنية العقلية وحجم ما تقرّه من خلل في الكينونة الثقافية.
إن التأهيل وبقدر كافٍ للذات ـ من خلال توثيق الاتصال الفعّال بمنابع الثقافة الإسلامية ـ شرطٌ يجب استدعاؤه لاستثمار معطياته بحسبانها هي من يزوّد الفرد بالنظرة العميقة المخترقة لحدود الإدراك الظاهر والسابرة لأغوار المقروء وغربلته، ومن ثم مواراة الأفكار المولدة للتصورات المغلوطة في الزوايا المظلمة من الذاكرة ليجري استحضارها في الظرف الملائم، وذلك عند إرادة تجلية مساحات التفوق وإظهار القيم الجمالية وإبراز خطوط التميّز في الفكر السلفي، والذي تتجلّى روعته الأخّاذة عند مقارنته بضدِّه، وكما قال الأول: وبضدِّها تتميّز الأشياءُ.