كلشن كوف
18-07-2006, 09:16 PM
بشائر الهزيمة الأمريكية
وتحديات ما بعد أمريكا
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
في الحياة من حولنا، وفي المستجدات التي تمور بها الدنيا أمامنا،نرى آيات وآيات، تكون قبل وقوعها شبيهة بالمستحيلات، وتبدو بعد حدوثها قريبة من وقوع المعجزات، ولكن إلفَ الإنسان للشيء الباهر بعد وقوعه يقلل من الانبهار به،ويحدُّ من وقع الشعور بأن المعجزة معجزة والآية آية، حتى تبدو الأمور التي كانت بالأمس أشبه بالخوارق، أموراً عادية، بل ربما تجد من يجادل في عظمتها وفي جليل دلالتها.
خذ مثلاً أصناف وأشكال المخترعات التي تموج بها الحياة في عصرنا.. إنها كانت قبل قرن واحد، أو عدة عقود، من الأحلام والأوهام التي ربما رُمي من زعم قدرة البشر على صنعها بالخرافة والدّجل، فلما وُجدت ورآها الناس وعايشوها خرجت عن وصف الإعجاز الخيالي إلى الإنجاز الاعتيادي، فالإنسان المعاصر صار يهيم في الهواء،ويطير على سطح الماء، ويتنقل صوته وصورته عبر الفضاء، وربما نسي هذا الإنسان أن يسبِّح اسم ربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، والذي علم الإنسان ما لم يعلم.
قسْ على ذلك المستجدات الحادثة على خريطة التاريخ المعاصر، وقارنْها بماكان عليه الحال، لا نقول قبل قرون، بل قبل عقود.. لا بل قبل سنين، ترَ عجباً!
* فمن كان يصدق أن تشهد السنون القلائل الماضية، عودةالاستعمار واستهداف العالم الإسلامي بغارات جديدة، تستهدف صراحةً أوطان المسلمين في عصر شعارات التعايش السلمي، والتفاهم الأممي والمنظمات الدولية المصنوعة من أجل (السلام العالمي)؟
* من كان يتخيل أن تبدأ الجولة الاستعمارية الجديدة من الشرق، باجتياح الروس لأفغانستان، ليتّحدالعالم الإسلامي بعدها ـ بلا قيادة واحدة ـ ضد الاتحاد السوفييتي حتى تكون ثمرة هذاالاتحاد الإسلامي إسقاط الاتحاد الإلحادي، الذي يُعدّ الكيان الأكبر في التاريخ الذي قام على فكرة إنكار وجود إله للكون؟!
? ومن كان يظن أن تتزامن مع هذه الملحمة نهضة وصحوة إسلامية عالمية، ظلّت تتزايد وتتفاعل حتى أصبحت بالفعل تجديداًجديداً على رأس مئة عام، تصديقاً لخبر المعصوم #؟
* ومن كان يتصور أن دولة اليهود التي حازت ترسانات السلاح من كل نوع، تعجز عن قهر فتيةفلسطين شبه العزّل، بعد أن هزم اليهود في حروب ثلاثة متوالية جيوش العرب مجتمعة؟
* ومن كان يخمِّن أن يبدأ مع ذلك مسلسل سقوط الأصنام القـومية، والزعـامـات الثورية والدمى العلمانية، شرقية كانت أو غربية، لتسلِّم الأمة قيادها من جديد لقادة غير متوّجين من الإسلاميين، في مجال الفكر والفقه،والنظر السياسي والتنظير الإستراتيجي والعسكري في كل ميادين المجابهة الكبيرة التي تولى العلمانيون عنها يوم الزحف؟
* ومن كان يحدث نفسه، أن يأتي الدور بهذه السرعة على القطب الثاني الذي أصبح قطباً وحيداً في قيادةالعالم (أمريكا) لتدخل هي الأخرى في ركب الدول الاستعمارية بعدما ظن الناس أن عهودالاستعمار قد ولّت إلى غير رجعة، وليتحول (النظام الدولي الجديد) الذي دعا إليه بوش الأب، إلى استعمار عالمي جديد في عهد بوش الابن، ولتدخل الدنيا مع مجيئه بوتيرةمتسارعة إلى مقدمات صراع الحضارات الذي يريدون له أن يفضي إلى نهاية التاريخ!
* إن في ذلك لآية:
أطلْـتُ ـ نـوعاً ما ـفيما سبق ـ في التعريج على الذكريات أو التذكيرات ؛ لأنبِّه إلى أننا نمرُّ بحدث جلل، وكائنة عظيمة، أخشى أن تذهب كثرة الإمساس فيها بالإحساس بها، والتهيؤ لتبعاتها، ألا وهي: الهزيمة الجسمية التي بدأت تلوح بوادرها في الأفق القريب لأعتى قوة في التاريخ، مدعومة بتحالف دولي، وتواطؤ عالمي، حيث تجيء مقدمات تلك الهزيمة ـويا للعجب! ـ على يد أناس لا يجمع بينهم ـ بعد الإسلام ـ إلا الحصار والإفقاروالمطاردة والاستضعاف، في أرض طال أسرها في سجن البعث لتخرج منه إلى فضاء الفوضى بلا جيش ولا شرطة ولا سلطة.
كل الشواهد تدل على أن الولايات المتحدة مقبلة علىالإدبار من العراق تجللها الفضيحة والعار، في هزيمة مركبة، وتحوُّلٍ حضاري عسكري،من شأنه أن يغير مجرى تاريخ العالم.
لقد تحدث العالم كثيراً عن تورط الولايات المتحدة في حرب «فيتنام»، وكيف أن شعب ذلك البلد الصغير الفقير، استطاع أن يجبر ثاني قوة في العالم على الانسحاب تحت وقع ضرباته ولسعاته. وقد سجلت الشعوب بطولات هذا الشعب الثائر ـ رغم وثنيته وشيوعيته ـ لا لشيء، إلا لأنه لم يخنع ولم يخضع، بل هبَّ لردِّ العدوان وصد الغارة، وعُدّ هذا في وقته من الكفاح المشروع الذي تكتلت بسببه قوى عالمية وإقليمية للوقوف مع المعتدى عليه ضد المعتدين، فالفيتاميونـ بخلاف العراقيين ـ كانت لهم حكومة معترف بها وثوار يدعمونها، ومعسكر شرقي كامل يقف خلفها يضم الاتحاد السوفييتي والصين والدول الشيوعية.
لكن انظر إلى العراق اليوم: ما هو ذلك المعسكر الدولي الذي يقف مع المقاومين فيه..؟! من هي تلك الكتلةالشرقية أو الغربية أو التحالف الذي يرمي بثقله معهم..؟! من هي تلك المنظمات الدولية التي تنصفهم أو العربية التي تنصرهم؟ وما حجم الهيئات أو التجمعات أو حتى الجماعات الإسلامية التي تقف معهم، ولا تقف ضدهم..؟!
إن المقاومين في العراق ـومنذ بدأ العدوان ـ بدؤوا وحدهم يقاتلون باسم الله من كفر بالله واعتدى على خلق الله، فلم يجـدوا نصيـراً أو معيناً سوى الله، ثم بعض الشرائح القليلة فــي الأمـة،ومـع هـذا.. نـرى الأعـداء المتجـبريـن يتـورطـون ثم يرتبكون ثم يتراجعون.. وها هم اليوم يتنادون بحتمية الخروج، ويتقاذفون التهم في التسبب بتلك الورطة الكبرى!!
إن هذا ـ وأيم اللهِ ـ آية من الآيات، تزيد أهل الإيمان إيماناً بموعودالله الذي قال: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِاللَّهِ} [البقرة: 249]، نعـم! إن الفـئة القلـيلة التـي لا يـزيـد عـددهـا عـن بضـعة عشـرات مـن الآلاف فـي مواجـهة مـئـة وسـتـين ألـفاً مـن الأمريكيين مع من معهم من الحلفاء، ونحو مئة ألف من العراقيين المنهزمين الذين يلتحقون بالجيـش أوالشـرطة التـي ركبـها ودرّبها وخطط لها المحتل على عينه ولأجل مصـلحته، كل هـؤلاءفـي مـواجهة نُـزَّاغ مفـرقين، بلا صولة ولا دولة، ولا كيان سياسي ولا جيـش عسكري ولا مصدر اقتصادي... واللهِ {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [النحل: 13].
ونحن نقول: إذا قدَّر الله للكيان القاهر (أمريكا) أن يُقهَر على أيدي المستضعفين من المؤمنين، فستكون هذه هي المرة الثانية في أقل من عقد ونصف، التي يرى العالم فيهاخيرية أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأي العين، بعد أن يكون الله ـ تعالى ـ قدجعل على أيديها إذلال أكبر قوتين في التاريخ المعاصر، وهما:
الاتحاد السوفييتي والاتحاد الأمريكي، دون أن يكون لأمتنا أي اتحاد، ليكون ذلك آية للمؤمنين، وليكون تجديداً لعهد الفخار والاقتدار الذي أسقط فيه المسلمون الأوائل إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من خمسة وعشرين عاماً، ليصدق بهذا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرَى أوله خير أم آخره»(1).
ولكن دون ذلك وقبل اكتماله تضحيات وتحديات، فلم يكن انتصار المؤمنين يوماً بلا مقابل، ولم يكن اندحارالكافرين بلا ثمن باهظ من الدماء والأشلاء وجيش جرّار من الأسرى والسجناء والشهداء،ولكن مع الفارق العظيم بين من يضحون لأجل الله، ومن يصدون عن سبيل الله ويصبحون ويمسون في حرب مع الله ومع أولياء الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
وابتغاء القوم، وتتبع مكائدهم،والوقوف في وجه طوفانهم، لم يكـن بالأمـر السـهل أو اليـسير التـكاليف، فلنـكن على ذكر ـ حتى لا ننسى ـ كيف سار المجاهدون في مشوار (ابتغاء القـوم) دون وهـن، رغـمالألـم والتنكيل والتخذيل، حتى قام من وسط ركام الهزيمة أولئك القوم الذين يردون اليوم الهزيمة على من أراد أن يلحقها بعموم المسلمين.
*أمريكا: نصر رخيص... وهزيمة باهظة:
بات معلوماً للعالم أن إزاحة صدام حسين لم تكن سبباً وحيداًفي فكرة غزو العراق، بدليل أن الأمريكيين لم يصبهم ضرره قبل الحرب، ولم يؤرقهم خطره بعدها، وأصبح واضحاً أن أسلحة الدمار الشامل (المزعومة) التي فُرض لأجلها الحصارالشامل على العراق لأكثر من عقد كامل، لم تكن هي الأخرى سبباً حقيقياً لتلك الحرب،وظهر أيضاً أن أحداث سبتمبر، وما ادعي بعدها من تواطؤ صدام مع القاعدة، كان مجردهراء، بدليل أن قرار الغزو قد اتخذ قبل تلك الأحداث كما قال ذلك «فويزلي كلارك»المرشح الديمقراطي السابق للرئـاسة الأمريكية في كتاب (النصر في الحروب الحديثة)،وقد كان «كلارك» قائداً عاماً لقوات الحلف الأطلسي الذي تسيطر عليه أمريكا. ويدلأيضاً على أن قرار الغزو قد اتخذ قبلأحداث سبتمبر تصريحات وزير الخزانة الأمريكيالأسبق (بول أونيل) الذي قال في كتابه (ثمن الولاء): إن قرار الغزو اتخذته الإدارةالأمريكية قبل ضربات القاعدة، وهو ما يذكر أيضاً بالتقارير المتعددة التي أشارت إلىأن قرار ضرب أفغانستـان قـد اتخذ قـبل هـذه الضـربات، بـل حـدث فعـلـياً أن استهدفتبصواريخ كروز في نهايات عهد «بيل كلينتون».
وقد تبين أن للغزو أهدافاً أخرى، لمتكن خافية على المراقبين والمهتمين، وعلى رأسها ضم النفط المخزون في العراق إلىجانب النفط في قزوين بالقرب من أفغانستان، إلى نفط الخليج، ريثما يتم بطريقة أوبأخرى الاستيلاء على مخزون نفط إيران، إضافة إلى هدف رئيس آخر وراء الغزو وهو تأمينمستقبل (إسرائيل) أو بالأحرى (نصف إسرائيل) من تهديدات على شاكلة توعدات صدام لهابالحرق عندما قال: «سأحرق نصف إسرائيل»! ومن تهديداته بتحرير القدس، عندما أعدلتحريرها كما أشيع جيشاً باسمها يبلغ قوامه نصف مليون متطوع!
أما الهدف الأبعدمن وراء ذلك فهو ما تواتر عن عزم الإدارة الأمريكية الجديدة ذات القيادة المزدوجةمن الإنجيليين النصارى والمحافظين اليهود الجدد، على البدء الفعلي في تنفيذ مشروعبوش الأب عن (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) الذي اختاروا الشرق الأوسط ليكونساحة ابتدائية لتنفيذه، واختاروا العراق ليكون نقطة انطلاق للوصول إليه، فيصبح ذلكالمشروع الإمبراطوري على هذا هو الهدف الرئيسي الجامع في داخله لكل الأهداف الفرعيةوالجزئية.
وتحديات ما بعد أمريكا
د.عبدالعزيز بن مصطفى كامل
في الحياة من حولنا، وفي المستجدات التي تمور بها الدنيا أمامنا،نرى آيات وآيات، تكون قبل وقوعها شبيهة بالمستحيلات، وتبدو بعد حدوثها قريبة من وقوع المعجزات، ولكن إلفَ الإنسان للشيء الباهر بعد وقوعه يقلل من الانبهار به،ويحدُّ من وقع الشعور بأن المعجزة معجزة والآية آية، حتى تبدو الأمور التي كانت بالأمس أشبه بالخوارق، أموراً عادية، بل ربما تجد من يجادل في عظمتها وفي جليل دلالتها.
خذ مثلاً أصناف وأشكال المخترعات التي تموج بها الحياة في عصرنا.. إنها كانت قبل قرن واحد، أو عدة عقود، من الأحلام والأوهام التي ربما رُمي من زعم قدرة البشر على صنعها بالخرافة والدّجل، فلما وُجدت ورآها الناس وعايشوها خرجت عن وصف الإعجاز الخيالي إلى الإنجاز الاعتيادي، فالإنسان المعاصر صار يهيم في الهواء،ويطير على سطح الماء، ويتنقل صوته وصورته عبر الفضاء، وربما نسي هذا الإنسان أن يسبِّح اسم ربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، والذي علم الإنسان ما لم يعلم.
قسْ على ذلك المستجدات الحادثة على خريطة التاريخ المعاصر، وقارنْها بماكان عليه الحال، لا نقول قبل قرون، بل قبل عقود.. لا بل قبل سنين، ترَ عجباً!
* فمن كان يصدق أن تشهد السنون القلائل الماضية، عودةالاستعمار واستهداف العالم الإسلامي بغارات جديدة، تستهدف صراحةً أوطان المسلمين في عصر شعارات التعايش السلمي، والتفاهم الأممي والمنظمات الدولية المصنوعة من أجل (السلام العالمي)؟
* من كان يتخيل أن تبدأ الجولة الاستعمارية الجديدة من الشرق، باجتياح الروس لأفغانستان، ليتّحدالعالم الإسلامي بعدها ـ بلا قيادة واحدة ـ ضد الاتحاد السوفييتي حتى تكون ثمرة هذاالاتحاد الإسلامي إسقاط الاتحاد الإلحادي، الذي يُعدّ الكيان الأكبر في التاريخ الذي قام على فكرة إنكار وجود إله للكون؟!
? ومن كان يظن أن تتزامن مع هذه الملحمة نهضة وصحوة إسلامية عالمية، ظلّت تتزايد وتتفاعل حتى أصبحت بالفعل تجديداًجديداً على رأس مئة عام، تصديقاً لخبر المعصوم #؟
* ومن كان يتصور أن دولة اليهود التي حازت ترسانات السلاح من كل نوع، تعجز عن قهر فتيةفلسطين شبه العزّل، بعد أن هزم اليهود في حروب ثلاثة متوالية جيوش العرب مجتمعة؟
* ومن كان يخمِّن أن يبدأ مع ذلك مسلسل سقوط الأصنام القـومية، والزعـامـات الثورية والدمى العلمانية، شرقية كانت أو غربية، لتسلِّم الأمة قيادها من جديد لقادة غير متوّجين من الإسلاميين، في مجال الفكر والفقه،والنظر السياسي والتنظير الإستراتيجي والعسكري في كل ميادين المجابهة الكبيرة التي تولى العلمانيون عنها يوم الزحف؟
* ومن كان يحدث نفسه، أن يأتي الدور بهذه السرعة على القطب الثاني الذي أصبح قطباً وحيداً في قيادةالعالم (أمريكا) لتدخل هي الأخرى في ركب الدول الاستعمارية بعدما ظن الناس أن عهودالاستعمار قد ولّت إلى غير رجعة، وليتحول (النظام الدولي الجديد) الذي دعا إليه بوش الأب، إلى استعمار عالمي جديد في عهد بوش الابن، ولتدخل الدنيا مع مجيئه بوتيرةمتسارعة إلى مقدمات صراع الحضارات الذي يريدون له أن يفضي إلى نهاية التاريخ!
* إن في ذلك لآية:
أطلْـتُ ـ نـوعاً ما ـفيما سبق ـ في التعريج على الذكريات أو التذكيرات ؛ لأنبِّه إلى أننا نمرُّ بحدث جلل، وكائنة عظيمة، أخشى أن تذهب كثرة الإمساس فيها بالإحساس بها، والتهيؤ لتبعاتها، ألا وهي: الهزيمة الجسمية التي بدأت تلوح بوادرها في الأفق القريب لأعتى قوة في التاريخ، مدعومة بتحالف دولي، وتواطؤ عالمي، حيث تجيء مقدمات تلك الهزيمة ـويا للعجب! ـ على يد أناس لا يجمع بينهم ـ بعد الإسلام ـ إلا الحصار والإفقاروالمطاردة والاستضعاف، في أرض طال أسرها في سجن البعث لتخرج منه إلى فضاء الفوضى بلا جيش ولا شرطة ولا سلطة.
كل الشواهد تدل على أن الولايات المتحدة مقبلة علىالإدبار من العراق تجللها الفضيحة والعار، في هزيمة مركبة، وتحوُّلٍ حضاري عسكري،من شأنه أن يغير مجرى تاريخ العالم.
لقد تحدث العالم كثيراً عن تورط الولايات المتحدة في حرب «فيتنام»، وكيف أن شعب ذلك البلد الصغير الفقير، استطاع أن يجبر ثاني قوة في العالم على الانسحاب تحت وقع ضرباته ولسعاته. وقد سجلت الشعوب بطولات هذا الشعب الثائر ـ رغم وثنيته وشيوعيته ـ لا لشيء، إلا لأنه لم يخنع ولم يخضع، بل هبَّ لردِّ العدوان وصد الغارة، وعُدّ هذا في وقته من الكفاح المشروع الذي تكتلت بسببه قوى عالمية وإقليمية للوقوف مع المعتدى عليه ضد المعتدين، فالفيتاميونـ بخلاف العراقيين ـ كانت لهم حكومة معترف بها وثوار يدعمونها، ومعسكر شرقي كامل يقف خلفها يضم الاتحاد السوفييتي والصين والدول الشيوعية.
لكن انظر إلى العراق اليوم: ما هو ذلك المعسكر الدولي الذي يقف مع المقاومين فيه..؟! من هي تلك الكتلةالشرقية أو الغربية أو التحالف الذي يرمي بثقله معهم..؟! من هي تلك المنظمات الدولية التي تنصفهم أو العربية التي تنصرهم؟ وما حجم الهيئات أو التجمعات أو حتى الجماعات الإسلامية التي تقف معهم، ولا تقف ضدهم..؟!
إن المقاومين في العراق ـومنذ بدأ العدوان ـ بدؤوا وحدهم يقاتلون باسم الله من كفر بالله واعتدى على خلق الله، فلم يجـدوا نصيـراً أو معيناً سوى الله، ثم بعض الشرائح القليلة فــي الأمـة،ومـع هـذا.. نـرى الأعـداء المتجـبريـن يتـورطـون ثم يرتبكون ثم يتراجعون.. وها هم اليوم يتنادون بحتمية الخروج، ويتقاذفون التهم في التسبب بتلك الورطة الكبرى!!
إن هذا ـ وأيم اللهِ ـ آية من الآيات، تزيد أهل الإيمان إيماناً بموعودالله الذي قال: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِاللَّهِ} [البقرة: 249]، نعـم! إن الفـئة القلـيلة التـي لا يـزيـد عـددهـا عـن بضـعة عشـرات مـن الآلاف فـي مواجـهة مـئـة وسـتـين ألـفاً مـن الأمريكيين مع من معهم من الحلفاء، ونحو مئة ألف من العراقيين المنهزمين الذين يلتحقون بالجيـش أوالشـرطة التـي ركبـها ودرّبها وخطط لها المحتل على عينه ولأجل مصـلحته، كل هـؤلاءفـي مـواجهة نُـزَّاغ مفـرقين، بلا صولة ولا دولة، ولا كيان سياسي ولا جيـش عسكري ولا مصدر اقتصادي... واللهِ {إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [النحل: 13].
ونحن نقول: إذا قدَّر الله للكيان القاهر (أمريكا) أن يُقهَر على أيدي المستضعفين من المؤمنين، فستكون هذه هي المرة الثانية في أقل من عقد ونصف، التي يرى العالم فيهاخيرية أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأي العين، بعد أن يكون الله ـ تعالى ـ قدجعل على أيديها إذلال أكبر قوتين في التاريخ المعاصر، وهما:
الاتحاد السوفييتي والاتحاد الأمريكي، دون أن يكون لأمتنا أي اتحاد، ليكون ذلك آية للمؤمنين، وليكون تجديداً لعهد الفخار والاقتدار الذي أسقط فيه المسلمون الأوائل إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من خمسة وعشرين عاماً، ليصدق بهذا قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرَى أوله خير أم آخره»(1).
ولكن دون ذلك وقبل اكتماله تضحيات وتحديات، فلم يكن انتصار المؤمنين يوماً بلا مقابل، ولم يكن اندحارالكافرين بلا ثمن باهظ من الدماء والأشلاء وجيش جرّار من الأسرى والسجناء والشهداء،ولكن مع الفارق العظيم بين من يضحون لأجل الله، ومن يصدون عن سبيل الله ويصبحون ويمسون في حرب مع الله ومع أولياء الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
وابتغاء القوم، وتتبع مكائدهم،والوقوف في وجه طوفانهم، لم يكـن بالأمـر السـهل أو اليـسير التـكاليف، فلنـكن على ذكر ـ حتى لا ننسى ـ كيف سار المجاهدون في مشوار (ابتغاء القـوم) دون وهـن، رغـمالألـم والتنكيل والتخذيل، حتى قام من وسط ركام الهزيمة أولئك القوم الذين يردون اليوم الهزيمة على من أراد أن يلحقها بعموم المسلمين.
*أمريكا: نصر رخيص... وهزيمة باهظة:
بات معلوماً للعالم أن إزاحة صدام حسين لم تكن سبباً وحيداًفي فكرة غزو العراق، بدليل أن الأمريكيين لم يصبهم ضرره قبل الحرب، ولم يؤرقهم خطره بعدها، وأصبح واضحاً أن أسلحة الدمار الشامل (المزعومة) التي فُرض لأجلها الحصارالشامل على العراق لأكثر من عقد كامل، لم تكن هي الأخرى سبباً حقيقياً لتلك الحرب،وظهر أيضاً أن أحداث سبتمبر، وما ادعي بعدها من تواطؤ صدام مع القاعدة، كان مجردهراء، بدليل أن قرار الغزو قد اتخذ قبل تلك الأحداث كما قال ذلك «فويزلي كلارك»المرشح الديمقراطي السابق للرئـاسة الأمريكية في كتاب (النصر في الحروب الحديثة)،وقد كان «كلارك» قائداً عاماً لقوات الحلف الأطلسي الذي تسيطر عليه أمريكا. ويدلأيضاً على أن قرار الغزو قد اتخذ قبلأحداث سبتمبر تصريحات وزير الخزانة الأمريكيالأسبق (بول أونيل) الذي قال في كتابه (ثمن الولاء): إن قرار الغزو اتخذته الإدارةالأمريكية قبل ضربات القاعدة، وهو ما يذكر أيضاً بالتقارير المتعددة التي أشارت إلىأن قرار ضرب أفغانستـان قـد اتخذ قـبل هـذه الضـربات، بـل حـدث فعـلـياً أن استهدفتبصواريخ كروز في نهايات عهد «بيل كلينتون».
وقد تبين أن للغزو أهدافاً أخرى، لمتكن خافية على المراقبين والمهتمين، وعلى رأسها ضم النفط المخزون في العراق إلىجانب النفط في قزوين بالقرب من أفغانستان، إلى نفط الخليج، ريثما يتم بطريقة أوبأخرى الاستيلاء على مخزون نفط إيران، إضافة إلى هدف رئيس آخر وراء الغزو وهو تأمينمستقبل (إسرائيل) أو بالأحرى (نصف إسرائيل) من تهديدات على شاكلة توعدات صدام لهابالحرق عندما قال: «سأحرق نصف إسرائيل»! ومن تهديداته بتحرير القدس، عندما أعدلتحريرها كما أشيع جيشاً باسمها يبلغ قوامه نصف مليون متطوع!
أما الهدف الأبعدمن وراء ذلك فهو ما تواتر عن عزم الإدارة الأمريكية الجديدة ذات القيادة المزدوجةمن الإنجيليين النصارى والمحافظين اليهود الجدد، على البدء الفعلي في تنفيذ مشروعبوش الأب عن (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) الذي اختاروا الشرق الأوسط ليكونساحة ابتدائية لتنفيذه، واختاروا العراق ليكون نقطة انطلاق للوصول إليه، فيصبح ذلكالمشروع الإمبراطوري على هذا هو الهدف الرئيسي الجامع في داخله لكل الأهداف الفرعيةوالجزئية.