LEADER 68
26-08-2013, 10:03 PM
أسنان الفساد
مباركة المري:: جريدة الوطن القطرية
في الآونة الأخيرة أو على الأصح في سنتي الأخيرة التي قضيتها في العمل قبل فصلي منه، عشت تجارب كثيرة، تخرجت من جامعات، درست على طاولات العلم، علمتني بدوية أمية أن الشرف والصدق أهم صفة يتحلى بها الإنسان، بل هي أسمى وأرقى صفة يتصف بها المرء، تعلمت من بدوي شديد المراس أن المال ليس غاية، بل وسيلة، وقد نعيش دون مال فلن نفقد حياتنا بدونه، وعلمني أن الكرامة تاج أبداً لا يسقط إلا بسقوط الرأس الذي يحمله، علَّــمت سنوات وسنوات القيم لطلابي، تبعت قلبي فلم أقل شيئاً إلا نبع منه، تبعت منهج والدي رحمهما الله، فصدقت القول ولم أجامل على باطل ولم أسكت على ظلم، ولم أبع قيمي من أجل مال أو منصب، وجاءت تجربتي الأخيرة لأخرج بها بدروس أضافت لشيبات رأسي عدداً ليس بالهين، عشت في عالم مختلف تماماً عما ألفته خلال سنواتي السابقة، قابلت أناساً تخرجوا من جامعات فملكوا علماً، ويشغلون مناصب مختلفة وتضيق أرصدتهم بأموال اكتسبوها من مناصبهم وأخرى من تجاراتهم وأعمال أخرى، فملكوا المال، ولكن عراة من الصدق والكرامة، عراة من الدين وإن تشدقوا بتعاليمه وسجدوا في أروقة مساجده، رأيت خيانة وطن، رأيت بيع القيم السامية في سوق المصالح المتبادلة، رأيت مدرسة التحايل والغش، رأيت قوماً يتعاونون على الباطل والظلم وقول الزور، ووقفت على مفترق الطرق، هل أبيع قيمي التي تعلَّمتها وعَــلَّمتها، وأدنس يدي بالمال العام، وأُعين الظالم على المظلوم، والتحايل على قوانين بلدي لصالح أفراد؟ أو أقف مقابل الطوفان لوحدي ليس معي إلا الله وفئة قليلة جداً وضعيفة ممن رحم الله في عالم النفاق والكذب والتحايل والغش ومسح كرامة الإنسان والخضوع والخنوع للمال والسلطة والمنصب وغيرها من مصالح أخرى رغبة أو رهبة طوعاً أو إجباراً، وأتحمل ما يقع علي مقابل الحفاظ على نقائي وسلامة فطرتي وأضع قيمي في طوق النجاة حتى لا يأخذها الطوفان وتغرق كما غرقت قيم الكثير والكثير أمام عيني؟
إن ما عشته ليس له اسم يُــعرف به إلا اسم الفساد وإن انقسم إلى عدة أنواع في داخلة كفساد الذمم وفساد الأخلاق وما يترتب عليها من فساد إداري ومالي وما ينتج من مفسدة الناس وارتكاب جرائم قانونية وإنسانية وغيرها، وإن كنت وحيدة أمام هذا الطوفان صامدة حتى لحظة كتابة هذا المقال مهما تعرضت له من أضرار نفسية ومادية، وأدعوا ربي أن يمنحني القوة للاستمرار، فهناك بقعة إيمان تحملها أعماقي تعتبر مصدراً أميناً يمدني بالطاقة والاستمرار، وتمنحني شجاعة منقطعة النظير قد تفوق قوتها قوة قنبلة هيروشيما النووية. فالله الحمد على كل حال.
إن ما عشته أظهر لي وجهاً قبيحاً، بل أوجهاً قبيحة تعيش بيننا في مجتمعنا الصغير قد تلبس أقنعة متنوعة تخفي حقيقتها، ومن خلال ما عرفته من أساليبهم الملتوية والتحايل على القوانين واستخدام المال العام في غير محلة وعالم المصالح المتبادلة الذي يعيشون بين جدرانه، أكد لي أن هناك تكراراً لهذه الوجوه والتي تلبس أقنعة وتمارس طرقاً مشابهة لطرق أبطال تجربتي الأخيرة، وأتساءل أحياناً: لماذا يفعلون ذلك؟
تأتي الإجابة بكل بساطة: «من أمن العقوبة أساء الأدب»، والفساد والمفسدون معولٌ يهدم جدار القيم في المجتمع من الداخل وهو خطرٌ شديد الخطورة، فإذا كان هناك فسادٌ يقوم به مواطنون وغيرهم ليسوا فقراء ولا جياع فما الذي يجعلهم يخونون أماناتهم ويخذلون وطنهم؟ أليس هذا إلا لعدة أسباب كثيرة ومن أهمها عدم وجود رادع وعقوبات شديدة تجعلهم عبرة للآخرين؟، فالتسامح والعفو الذي ينالونه عند اكتشاف أمرهم ليس علاجاً وليس ما يجب فعله، وهنا تحضرني قصة قرأتها للكاتب الأردني يوسف غيشان، حيث تقول القصة كما وردته:
«كــــان هناك مزارعٌ لاحظ أن محصول الجزر في مزرعته ينقص شيئاً فشيئاً فقرر أن يراقب الحقل ليلاً لكي يعرف مَــن الذي يسرق المحصول.
في الهزيع الأخير من الليل لاحظ المزارع قطيعاً من الأرانب يهجم واحداً تلو الآخر على المحصول ويأكل منه، إلى أن قضت على أكثر الجزر النامي، قرر المزارع اصطيادها، وفعلاً نجح في خطته وأمسك بها جميعها ثم فكر كيف يعاقبها. أوصله تفكيره إلى قلع أسنانها لكي لا تستطيع أكل أي شيء من المحصول أو غيره وفعلاً تم قلع الأسنان ثم تركها وعاد هو أدراجه يستريح من هذا العناء. في اليوم التالي يدخل المزرعة فيرى الجزر مأكولاً، فجن جنونه. انتظر حتى جنّ الليل إلى أن جاء أرنب يمشي بتؤدة إلى أن وصل قرب المزرعة أمسكه المزارع بشدة وسأله:
مَن الذي أكل الجزر؟
فقال الأرنب:
نحن.
فدهش المزارع وسأله وكيف ذلك وقد قلعت لكم كل أسنانكم؟!
فأجابه الأرنب الواثق بكل حزم:
عملناه عثير وثربناه».
الحكمة من الموضوع:
لا يكفي إطلاقاً قلع أسنان الفساد.....،،
مباركة المري:: جريدة الوطن القطرية
في الآونة الأخيرة أو على الأصح في سنتي الأخيرة التي قضيتها في العمل قبل فصلي منه، عشت تجارب كثيرة، تخرجت من جامعات، درست على طاولات العلم، علمتني بدوية أمية أن الشرف والصدق أهم صفة يتحلى بها الإنسان، بل هي أسمى وأرقى صفة يتصف بها المرء، تعلمت من بدوي شديد المراس أن المال ليس غاية، بل وسيلة، وقد نعيش دون مال فلن نفقد حياتنا بدونه، وعلمني أن الكرامة تاج أبداً لا يسقط إلا بسقوط الرأس الذي يحمله، علَّــمت سنوات وسنوات القيم لطلابي، تبعت قلبي فلم أقل شيئاً إلا نبع منه، تبعت منهج والدي رحمهما الله، فصدقت القول ولم أجامل على باطل ولم أسكت على ظلم، ولم أبع قيمي من أجل مال أو منصب، وجاءت تجربتي الأخيرة لأخرج بها بدروس أضافت لشيبات رأسي عدداً ليس بالهين، عشت في عالم مختلف تماماً عما ألفته خلال سنواتي السابقة، قابلت أناساً تخرجوا من جامعات فملكوا علماً، ويشغلون مناصب مختلفة وتضيق أرصدتهم بأموال اكتسبوها من مناصبهم وأخرى من تجاراتهم وأعمال أخرى، فملكوا المال، ولكن عراة من الصدق والكرامة، عراة من الدين وإن تشدقوا بتعاليمه وسجدوا في أروقة مساجده، رأيت خيانة وطن، رأيت بيع القيم السامية في سوق المصالح المتبادلة، رأيت مدرسة التحايل والغش، رأيت قوماً يتعاونون على الباطل والظلم وقول الزور، ووقفت على مفترق الطرق، هل أبيع قيمي التي تعلَّمتها وعَــلَّمتها، وأدنس يدي بالمال العام، وأُعين الظالم على المظلوم، والتحايل على قوانين بلدي لصالح أفراد؟ أو أقف مقابل الطوفان لوحدي ليس معي إلا الله وفئة قليلة جداً وضعيفة ممن رحم الله في عالم النفاق والكذب والتحايل والغش ومسح كرامة الإنسان والخضوع والخنوع للمال والسلطة والمنصب وغيرها من مصالح أخرى رغبة أو رهبة طوعاً أو إجباراً، وأتحمل ما يقع علي مقابل الحفاظ على نقائي وسلامة فطرتي وأضع قيمي في طوق النجاة حتى لا يأخذها الطوفان وتغرق كما غرقت قيم الكثير والكثير أمام عيني؟
إن ما عشته ليس له اسم يُــعرف به إلا اسم الفساد وإن انقسم إلى عدة أنواع في داخلة كفساد الذمم وفساد الأخلاق وما يترتب عليها من فساد إداري ومالي وما ينتج من مفسدة الناس وارتكاب جرائم قانونية وإنسانية وغيرها، وإن كنت وحيدة أمام هذا الطوفان صامدة حتى لحظة كتابة هذا المقال مهما تعرضت له من أضرار نفسية ومادية، وأدعوا ربي أن يمنحني القوة للاستمرار، فهناك بقعة إيمان تحملها أعماقي تعتبر مصدراً أميناً يمدني بالطاقة والاستمرار، وتمنحني شجاعة منقطعة النظير قد تفوق قوتها قوة قنبلة هيروشيما النووية. فالله الحمد على كل حال.
إن ما عشته أظهر لي وجهاً قبيحاً، بل أوجهاً قبيحة تعيش بيننا في مجتمعنا الصغير قد تلبس أقنعة متنوعة تخفي حقيقتها، ومن خلال ما عرفته من أساليبهم الملتوية والتحايل على القوانين واستخدام المال العام في غير محلة وعالم المصالح المتبادلة الذي يعيشون بين جدرانه، أكد لي أن هناك تكراراً لهذه الوجوه والتي تلبس أقنعة وتمارس طرقاً مشابهة لطرق أبطال تجربتي الأخيرة، وأتساءل أحياناً: لماذا يفعلون ذلك؟
تأتي الإجابة بكل بساطة: «من أمن العقوبة أساء الأدب»، والفساد والمفسدون معولٌ يهدم جدار القيم في المجتمع من الداخل وهو خطرٌ شديد الخطورة، فإذا كان هناك فسادٌ يقوم به مواطنون وغيرهم ليسوا فقراء ولا جياع فما الذي يجعلهم يخونون أماناتهم ويخذلون وطنهم؟ أليس هذا إلا لعدة أسباب كثيرة ومن أهمها عدم وجود رادع وعقوبات شديدة تجعلهم عبرة للآخرين؟، فالتسامح والعفو الذي ينالونه عند اكتشاف أمرهم ليس علاجاً وليس ما يجب فعله، وهنا تحضرني قصة قرأتها للكاتب الأردني يوسف غيشان، حيث تقول القصة كما وردته:
«كــــان هناك مزارعٌ لاحظ أن محصول الجزر في مزرعته ينقص شيئاً فشيئاً فقرر أن يراقب الحقل ليلاً لكي يعرف مَــن الذي يسرق المحصول.
في الهزيع الأخير من الليل لاحظ المزارع قطيعاً من الأرانب يهجم واحداً تلو الآخر على المحصول ويأكل منه، إلى أن قضت على أكثر الجزر النامي، قرر المزارع اصطيادها، وفعلاً نجح في خطته وأمسك بها جميعها ثم فكر كيف يعاقبها. أوصله تفكيره إلى قلع أسنانها لكي لا تستطيع أكل أي شيء من المحصول أو غيره وفعلاً تم قلع الأسنان ثم تركها وعاد هو أدراجه يستريح من هذا العناء. في اليوم التالي يدخل المزرعة فيرى الجزر مأكولاً، فجن جنونه. انتظر حتى جنّ الليل إلى أن جاء أرنب يمشي بتؤدة إلى أن وصل قرب المزرعة أمسكه المزارع بشدة وسأله:
مَن الذي أكل الجزر؟
فقال الأرنب:
نحن.
فدهش المزارع وسأله وكيف ذلك وقد قلعت لكم كل أسنانكم؟!
فأجابه الأرنب الواثق بكل حزم:
عملناه عثير وثربناه».
الحكمة من الموضوع:
لا يكفي إطلاقاً قلع أسنان الفساد.....،،