تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أما زال المستثمرون الأجانب موضع ترحيب؟ ..



شمعة الحب
16-09-2006, 09:07 PM
أما زال المستثمرون الأجانب موضع ترحيب؟
كارل ب. سوفان - 23/08/1427هـ
أثناء العقدين الأخيرين ارتفعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر حتى بلغت عنان السماء، حيث قفزت من 40 مليار دولار أمريكي في أوائل ثمانينيات القرن العشرين إلى 900 مليار دولار أمريكي خلال العام الماضي. وقد بلغ المخزون من الاستثمار الأجنبي المباشر ما يقرب من عشرة تريليونات دولار أمريكي، ليصبح بذلك أكثر الآليات أهمية لتسليم السلع والخدمات إلى الأسواق الأجنبية: حيث بلغت مبيعات الشركات الأجنبية التابعة في الإجمال نحو 19 تريليون دولار أمريكي، مقارنة بصادرات العالم التي بلغت 11 تريليون دولار أمريكي. وفي الوقت ذاته فإن تحرير أنظمة الاستثمار الأجنبي المباشر من قِـبَل الدول كافة تقريباً كان بمثابة القوة الدافعة للتجارة فيما بين الشركات ـ وهو ما يمثل شريان الحياة بالنسبة إلى نظام الإنتاج الدولي المتكامل الناشئ، كما يشكل بالفعل ما يقرب من ثلث التجارة العالمية. ولكن هل اقتربت الأوقات الطيبة من نهايتها؟
إن الاستثمار الأجنبي المباشر قادر على جلب نطاق عريض من الفوائد، إلا أن الأمر بطبيعة الحال لا يخلو من التكاليف. فأثناء سبعينيات القرن العشرين، حين لفتت الشركات الدولية التي أخذت على عاتقها تنفيذ هذا النوع من الاستثمار أنظار عامة الناس، تصور العديد من الحكومات أن التكاليف المترتبة على الاستثمار الأجنبي المباشر تفوق الفوائد المتحصلة منه، وعلى ذلك فقد بادرت تلك الحكومات إلى فرض رقابتها وسيطرتها على الاستثمار الأجنبي المباشر. وبزعامة الدول المتقدمة بدأ العمل في ذلك المجال يكتسب قدراً كبيراً من النشاط والحيوية أثناء الثمانينيات. وبعد أن كان الاستثمار الأجنبي المباشر يُـنْـظَر إليه باعتباره جزءاً من المشكلة، تحول إلى جزء من الحل لمشاكل النمو الاقتصادي والتنمية.
ولا شيء أكثر تجسيداً لهذا الأمر من التغييرات التي طرأت على أنظمة الاستثمار الأجنبي المباشر الوطنية. وطبقاً للتقارير الصادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، فمن بين التغييرات التي حدثت في الفترة ما بين عامي 1991 و2004، والتي بلغ عددها 2156 تغييراً، فإن 93 في المائة منها كانت في اتجاه خلق بيئة أكثر ملاءمة للشركات الدولية. ولكن ثمة خطر حقيقي يكمن في احتمالات تراجع هذا النشاط، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتداد عملية التحرير تلك نحو الاتجاه المضاد.
ففي البلدان المتقدمة (وفي الأسواق الناشئة بصورة متزايدة)، كثيراً ما يأخذ الاستثمار الأجنبي المباشر هيئة اندماجات أو حيازات للشركات عبر الحدود. والحقيقة أن المقاومة لهذا الشكل من أشكال الاستثمار الأجنبي المباشر تصبح أكثر تكراراً حين يتضمن الأمر شركات محلية ينظر إليها أهل السياسة باعتبارها "شركات وطنية ممتازة" أو تشكل أهمية بالنسبة إلى الأمن القومي، أو التنمية الاقتصادية، أو الهوية الثقافية. كما أن المشاركة المتنامية من جانب مجموعات الأسهم الخاصة في أنشطة الاندماج والحيازة العابرة للحدود تحمل في طياتها المزيد من الخلاف والجدال، وذلك لأن مثل هذه الصفقات ينظر إليها تقليدياً باعتبارها مضاربة محضة.
وباسم "الوطنية الاقتصادية" والأمن واعتبارات أخرى باتت مقاومة الاندماجات والحيازات العابرة للحدود تتخذ أشكالاً أكثر تنظيماً في عدد متزايد من الدول. على سبيل المثال، في الآونة الأخيرة بذلت لجنة تابعة لمجلس الشيوخ في الولايات المتحدة جهوداً حثيثة من أجل منع تنفيذ الخطط الرامية إلى تحرير قواعد حيازة الشركات الأجنبية للخطوط الجوية، بينما استنت أوروبا قوانين أكثر تقييداً للحيازات الأجنبية. فضلاً عن ذلك، تسعى الحكومات إلى تطبيق القواعد التنظيمية القائمة حالياً، ولكن على نحو أكثر صرامة، فيما يتصل بالتدقيق في عمليات حيازة الشركات الأجنبية للأصول الوطنية.
وتتشابك هذه الاستجابة مع ردود أفعال دفاعية من جانب الأسواق الناشئة في مواجهة الدور المتنامي للشركات الدولية، والتي يصفها بعض الناس بـِ"الصبية الجدد في الحي". ولسوف يصبح لزاماً على الشركات الدولية والدول الأصلية التي تنتمي إليها أن تكيف أوضاعها وتتأقلم مع هذه الكوكبة الجديدة من القوى وما تحمله معها من آثار ضمنية على السوق العالمية. وكما ندرك من مجالات أخرى فإن التأقلم أو التكيف مع القادمين الجدد ليس بالأمر اليسير: ولنقارن على سبيل المثال بين ردود الأفعال إزاء الاندماج بين شركة "الكاتيل" الفرنسية وشركة "لوسينت" الأمريكية، وردود الأفعال إزاء العطاء المقدم من شركة النفط الصينية "ناشيونال أوفشور" لشراء شركة "شيفرون" أو العطاء المقدم من شركة "ميتال" لشراء شركة "أسيلور".
ثمة نوع آخر من ردود الأفعال الدفاعية ـ هذه المرة في مواجهة الاستثمار الأجنبي المباشر المهاجر إلى الخارج ـ التي قد تنشأ بمجرد أن تكتسب عملية هجرة الخدمات إلى الخارج المزيد من السرعة. وتشير كل الدلائل إلى أن هجرة الخدمات قد بلغت ذروتها الآن، ومن المتوقع أن تتفاقم عملية الهجرة هذه من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر. وإذا لم تبادر الدول الأصلية إلى وضع الآليات التوفيقية اللازمة للتعامل مع الثورة المتسارعة المتمثلة في تحويل وظائف الصناعات الخدمية إلى سلعة تجارية، فإن ردود الأفعال المضادة لهذا النوع من الاستثمار الأجنبي المباشر المتجه نحو الخارج ستصبح أمراً محتماً لا يمكن اجتنابه.
الحقيقة أن هذا الانزعاج المتنامي فيما يتصل بالاستثمار الأجنبي المباشر يقتصر إلى حد كبير حتى الآن على الدول المتقدمة. ولكن هناك من الدلائل ما يشير إلى انتشار هذا الانزعاج بين دوائر الأسواق الناشئة. وفي حالة المشاريع الضخمة فسنجد أن بعض الدول المضيفة تثير العديد من التساؤلات بشأن العقود التي تحدد علاقتها بالشركات الدولية الكبرى، كما تحرص الحكومات على مراجعة مثل هذه العقود لأنها تعتقد (سواء عن حق أو خطأ) أنها لم تحصل على صفقة عادلة. ومن بين قضايا التحكيم الدولي المعروفة التي بلغ عددها 219 قضية متصلة بمشاريع الاستثمار، فإن نحو ثلثي الدعاوى القضائية أقيمت خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
لقد تغيرت في الماضي أساليب التناول المختلفة للمسائل المتصلة بالاستثمار الأجنبي المباشر، ومن الممكن أن تتغير من جديد في المستقبل، وذلك تبعاً لنظرة الحكومات إلى كيفية إيجاد التوازن بين التكاليف والفوائد. ولا يشتمل هذا التوازن على العوامل الاقتصادية فحسب، بل هناك أيضاً اعتبارات أخرى مثل الأمن ورغبة كل دولة في التحكم في تنميتها الاقتصادية. والحقيقة أن مفهوم "التأميم في القرن الواحد والعشرين"، والذي قدمه المرشح الرئاسي في بيرو أولانتا هيومالا، يعكس في هذا السياق "الوطنية الاقتصادية" لدى رئيس الوزراء الفرنسي دومينيك دوفيلبان.
إن التحفظات في مواجهة الاستثمار الأجنبي المباشر (كما هي الحال دوماً في مواجهة كل ما هو أجنبي) قد تكون كامنة في جميع المجموعات المختلفة من الدول، ومن الممكن أن يعمل أهل السياسة على إبراز مثل هذه التحفظات إلى السطح، الأمر الذي سيؤدي لا محالة إلى النـزوع إلى الحماية. ولكن سيكون من قبيل المفارقة على أية حال أن تتولى الدول المتقدمة الآن قيادة عملية الارتداد عن الاستثمار الأجنبي المباشر ـ بعد أن كانت هي ذاتها قد تولت قيادة موجة تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر خلال العقدين الماضيين. ولكن لا يسعنا الآن إلا أن نأمل في إمكانية كبح عملية الارتداد عن التحرر الاقتصادي التي نشهدها اليوم في الدول المتقدمة قبل أن تنتشر إلى أجزاء أخرى من العالم، وقبل أن يؤدي هذا الارتداد إلى عواقب سيئة يعانيها الجميع.