بنـ الدحيل ـت
23-10-2006, 10:25 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله على ماوفق من الطاعات ,
وذاد من المعصية ,
ونسأله لمنتّه تماماً ,
وبحبله اعتصاماً ,
نحمده على ماكان ,
ونستعينه من أمرنا على مايكون ,
ونسأله المعافاة في الدين والبدن ,
والصلاة والسلام على من بلّغ الرسالة ,
وأدّى الأمانة , ونصح الأمة ,
وعلى آله وأصحابه وسلم ,
وبعد :
فإن شعور المسلم بالاستبشار والغبطة
حينما يرى إقبال الناس على الله في رمضان ,
وما يُقلبّه من بصره هنا وهناك
تجاه أوجه البر والإحسان
لدى الكثيرين من أهل الإسلام ,
ليأخذ العجب بلبه كل مأخذ
, ولربما غلب السرور مآقي المترقب ,
فهتن دمع الفرح والإعجاب
لما يرى ويشاهد ,
إلا أن العيد ومايعقبه
ليصدق ذلك الظن أو يكذبه ,
ومن ثم ينكص المعجب ,
وتشخص أحداقه ,
لما يرى من مظاهر التراجع والكسل والفتور , ومن ثم يوقن ,
أنه إنما كان مستسمناً ذا ورم .
وإن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجب من لبه كل مأخذ , حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان , وكأن لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لاتكون إلا في رمضان , وماعلموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها , وماشهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها , إلى حين وبلوغ رمضان الآخر .
نعم ! لرمضان ميزة وخصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور , بَيْد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب , ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم جواداً في كل حياته , غير أنه يزداد جوده في رمضان , ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما صح عنه :" وأعوذ بك من الحور بعد الكور ". والله جل وعلا يقول : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا )[النحل :92 ] إذْْْ لم يقصر الخير على شهر رمضان فحسب , بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه جل وعلا بقوله : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)"[الحجر :99], فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت .
ومايشاهده المرء في الأعياد في أقطار شتى , من الفرح اللامشروع , وتجاوز حدود الاعتدال فيه , على هيئة وصورة تنفيان كونهم من الخائفين على رد الأعمال الصالحة , أو من الشاكرين لبلوغ هذا العيد الذي أكرمهم الله به ومن ثم , فإن الحال على ماذُكر كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ,لأن النفس البشرية لو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت المزاحمة بما يسخطه إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ )[محمد :25] ولو أنهم أحبوا الطاعة لما تخلوا عنها طرفة عين , وقديماً قيل : من عشق طريق اليمن لم يلتفت إلى الشام .
ألا فاعلموا - يارعاكم الله - أن من قارب الفتور والكسل بَعُد عنه النصب والاجتهاد , ومن ادّعى الترويح أو التسلية وُكِل إلى نفسه , وإن من أحق الأشياء بالضبط والقهر والأطر على العبادة أطراً , هي نفسك التي بين جنبيك .
فإياك إياك - أيها المسلم - أن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان , مقاربة الفتنة بعده , فأن الهوى مكايد , فكم من صنديد في غبار الحرب اُغتيل , فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه , واذكر - حفظك الله - حمزة مع وحشي رضي الله عنهما .
من تعود الفتور والكسل , أو مَالَ إلى الدعة والراحة , فَقَدْ فَقَدَ الراحة , وقد قيل في الحكمة : إن أردت ألا تتعب , فاتعب لئلا تتعب , ولا أدل على ذلك من وصية الباري جلّ وعلا لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) لأن من كسل لم يؤد حقاً , ومن ضجر لم يصبر على الحق , والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت , العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
وليس في سياط التأديب للنفس أجود من سوط عزم , وإلا وَنَت وأَبَت ,لأن فساد الأمر في التردد , والنفس - عباد الله - من أعجب الأشياء مجاهدة , لأن أقواماً أطلقوها فيما تحب , فأوقعتهم فيما كرهوا , وآخرين بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها , وإنما الحازم من تَعلمَ منه نفسُه الجد وحفظ الأصول , فإذا ما أفسح لها في مباحٍ ,لم تتجاسر أن تتعداه ,لأن تفقد النفس حياة , وإغفالها لون من ألوان القتل صبراً .
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
إن الحياة الدنيا لاتخلو من عقوبة , ومن عاش لم يخل من المصيبة , وقل ماينفك عن عجيبة , وإن من أعظم العقوبات عباد الله , عدم إحساس المعاقب بها , بل وأدهى من ذلك وأمَرّ السرور بماهو عقوبة كالفرح بالتقصير بعد التمام , أو التمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها ,ومن هذه حاله لايفوز بطاعة , ولو غشى نفسه بعابدات موسمية ذات خداج , لوجَد خفيّ العقوبة الرئيس , وهو سلب حلاوة المناجاة , أو لذة التعبد , إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات , من عباد رب الشهور كلها , بواطنهم كظواهرهم , شوالهم كرمضانهم , الناس في غفلاتهم , وهم في قطع فلاتهم , فأخلق بمدمن القرع منهم للأبواب أن يلج , لأنهم تغلبوا على طباعهم ذات الجواذب الكثيرة , ولذا فليس العجب أن يَغلب الطبع , وإنما العجب أن يُغلب .
لقد خلق الإنسان في كبد , والمرء كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه , وإن من أعظم ما يعين النفس المسلمة على دوام الطاعة ألا تُحمَّل من الأمر ما لا تطيق , بل لابد لها من التلطف فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف , والطريق الشاق ينبغي أن يقطع بألطف ممكن ولاشك أن الرواحل إذا تعبت نهض الحادي يُنشدها , ولذا فإن أخذ الراحة للجد جدٌ , وغوص البحار في طلب الدر صعود , ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس , فليداوم النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واليستمع إلى قوله :" إن هذا الدين متين , فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى " [رواه أحمد ] وعند البخاري في صحيحة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الدين يسر , ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه".
كثيرون هم أولئك الذين يشفقون من المتاعب وينفرون من الجهد والتكاليف , وهم كذلك يتساقطون إعياءً خلف صفوف الجادين من عباد الله , يتخللونها ضعافاً مسترخين , يخذلون أنفسهم في ساعات الشدة ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ الأعلى :16-17] نعم إن هناك ضعفا في البشر , ولا يملك الناس أن يتخلصوا منه , وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم , ولكن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين , وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافة وأسرةً وإعلاماً من الثوابت التي لاتتغير, ولا تخدع بها االنفس في موسم ما دون غيره كما أنهم تمنعهم في الوقت نفسه بإذن الله من التساقط وتحرسهم من الفترة بعد الشره مهما قلت مادامت على الدوام , فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون , فأن الله لا يمل حتى تملوا , وإن أحب الأعمال إلى الله مادام وإن قل"[ رواه البخاري ومسلم ]
ولا جرم أن نشير هاهنا إلى أن التحرر من الغلو والتشدد لا يعني الترك والإهمال , بل يغني التوسط والاعتدال , مع محافظة المرء على ما اعتاده من عمل , أو التزام في السلوك العام , قال عبدالله بن عمرو بن العاص رصي الله عنهما : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا عبد الله ,لا تكون مثل فلان , كان يقوم الليل فترك قيم الليل " [متفق عليه ] .
إن الإنهماك المستمر في العبادة والإغلاق على حقوق النفس والأهلين يعد إفراطا مذموما ليس من هدي سيد المرسلين وأعبد الناس لرب العالمين , له كونه سببا ً في التراجع والنكوص , كما أن الأمر في الوقت نفسه إن كان تقاصراً عن العبادة , أو انشغالاً عنها أو تركاً للحبل على الغارب مجانبة للتصحيح , أو الأرتقاء بالحال على مايريده الله ورسوله يعد تفريطاً ممقوتاً وكلا طرفي قصد الأمور ذميم , ويمثل ذلك تضييع المجتمعات المسلمة , بين إفراط وتفريط , ناشئين عن جهل وضلال , كما قال علي رضي الله عنه :" لايُرى الجاهل إلا مُفرطاًً " , ولفظ الإفراط والتفريط - عباد الله - لم يأت في القرآن على سبيل المدح إلا في نفيه عن كل صالح أو مصلح , يقول سبحانه عن الملائكة:
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعام :61] وقال عن موسى وهارون قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى)[ طه: 45] ويقول سبحانه : ( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ) [الزمر:56] ويقول سبحانه عن أهل النار ( قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ) [الأنعام :31] وقال جل شأنه: ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف :28]
والمراد هنا - عباد الله - : أن يتماسك المرء المسلم والمجتمعات المسلمة , فيكون لهم من صلابة عودهم الإسلامي وحسه مايحول بينهم وبين الفتور والضعف , أو التراجع عن الدين أو التخاذل عنه , وإذا مابدت هفوة أو غفلة ,سارعوا بالتيقظ ومعاودة التمسك , والاستجابة لكل ناصح مشفق , وهذا هو التوسط المحمود الذي اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم .
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه *** ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود :112] والطغيان هنا هو ماتجاوز الحد في الأخذ أو الترك
الحمد الله على ماوفق من الطاعات ,
وذاد من المعصية ,
ونسأله لمنتّه تماماً ,
وبحبله اعتصاماً ,
نحمده على ماكان ,
ونستعينه من أمرنا على مايكون ,
ونسأله المعافاة في الدين والبدن ,
والصلاة والسلام على من بلّغ الرسالة ,
وأدّى الأمانة , ونصح الأمة ,
وعلى آله وأصحابه وسلم ,
وبعد :
فإن شعور المسلم بالاستبشار والغبطة
حينما يرى إقبال الناس على الله في رمضان ,
وما يُقلبّه من بصره هنا وهناك
تجاه أوجه البر والإحسان
لدى الكثيرين من أهل الإسلام ,
ليأخذ العجب بلبه كل مأخذ
, ولربما غلب السرور مآقي المترقب ,
فهتن دمع الفرح والإعجاب
لما يرى ويشاهد ,
إلا أن العيد ومايعقبه
ليصدق ذلك الظن أو يكذبه ,
ومن ثم ينكص المعجب ,
وتشخص أحداقه ,
لما يرى من مظاهر التراجع والكسل والفتور , ومن ثم يوقن ,
أنه إنما كان مستسمناً ذا ورم .
وإن من يقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العجب من لبه كل مأخذ , حينما يرى مظاهر الكسل والفتور والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان , وكأن لسان حالهم يحكي أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لاتكون إلا في رمضان , وماعلموا أن الله سبحانه هو رب الشهور كلها , وماشهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزود وترويض على الطاعة والمصابرة عليها , إلى حين وبلوغ رمضان الآخر .
نعم ! لرمضان ميزة وخصوصية في العبادة ليست في غيره من الشهور , بَيْد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب , ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم جواداً في كل حياته , غير أنه يزداد جوده في رمضان , ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما صح عنه :" وأعوذ بك من الحور بعد الكور ". والله جل وعلا يقول : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا )[النحل :92 ] إذْْْ لم يقصر الخير على شهر رمضان فحسب , بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه جل وعلا بقوله : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)"[الحجر :99], فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت .
ومايشاهده المرء في الأعياد في أقطار شتى , من الفرح اللامشروع , وتجاوز حدود الاعتدال فيه , على هيئة وصورة تنفيان كونهم من الخائفين على رد الأعمال الصالحة , أو من الشاكرين لبلوغ هذا العيد الذي أكرمهم الله به ومن ثم , فإن الحال على ماذُكر كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ,لأن النفس البشرية لو كان عندها شغل بالخالق لما أحبت المزاحمة بما يسخطه إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ )[محمد :25] ولو أنهم أحبوا الطاعة لما تخلوا عنها طرفة عين , وقديماً قيل : من عشق طريق اليمن لم يلتفت إلى الشام .
ألا فاعلموا - يارعاكم الله - أن من قارب الفتور والكسل بَعُد عنه النصب والاجتهاد , ومن ادّعى الترويح أو التسلية وُكِل إلى نفسه , وإن من أحق الأشياء بالضبط والقهر والأطر على العبادة أطراً , هي نفسك التي بين جنبيك .
فإياك إياك - أيها المسلم - أن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان , مقاربة الفتنة بعده , فأن الهوى مكايد , فكم من صنديد في غبار الحرب اُغتيل , فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه , واذكر - حفظك الله - حمزة مع وحشي رضي الله عنهما .
من تعود الفتور والكسل , أو مَالَ إلى الدعة والراحة , فَقَدْ فَقَدَ الراحة , وقد قيل في الحكمة : إن أردت ألا تتعب , فاتعب لئلا تتعب , ولا أدل على ذلك من وصية الباري جلّ وعلا لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) لأن من كسل لم يؤد حقاً , ومن ضجر لم يصبر على الحق , والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت , العاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
وليس في سياط التأديب للنفس أجود من سوط عزم , وإلا وَنَت وأَبَت ,لأن فساد الأمر في التردد , والنفس - عباد الله - من أعجب الأشياء مجاهدة , لأن أقواماً أطلقوها فيما تحب , فأوقعتهم فيما كرهوا , وآخرين بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها , وإنما الحازم من تَعلمَ منه نفسُه الجد وحفظ الأصول , فإذا ما أفسح لها في مباحٍ ,لم تتجاسر أن تتعداه ,لأن تفقد النفس حياة , وإغفالها لون من ألوان القتل صبراً .
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
إن الحياة الدنيا لاتخلو من عقوبة , ومن عاش لم يخل من المصيبة , وقل ماينفك عن عجيبة , وإن من أعظم العقوبات عباد الله , عدم إحساس المعاقب بها , بل وأدهى من ذلك وأمَرّ السرور بماهو عقوبة كالفرح بالتقصير بعد التمام , أو التمكن من الذنوب بعد الإقلاع عنها ,ومن هذه حاله لايفوز بطاعة , ولو غشى نفسه بعابدات موسمية ذات خداج , لوجَد خفيّ العقوبة الرئيس , وهو سلب حلاوة المناجاة , أو لذة التعبد , إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات , من عباد رب الشهور كلها , بواطنهم كظواهرهم , شوالهم كرمضانهم , الناس في غفلاتهم , وهم في قطع فلاتهم , فأخلق بمدمن القرع منهم للأبواب أن يلج , لأنهم تغلبوا على طباعهم ذات الجواذب الكثيرة , ولذا فليس العجب أن يَغلب الطبع , وإنما العجب أن يُغلب .
لقد خلق الإنسان في كبد , والمرء كادح إلى ربه كدحاً فملاقيه , وإن من أعظم ما يعين النفس المسلمة على دوام الطاعة ألا تُحمَّل من الأمر ما لا تطيق , بل لابد لها من التلطف فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف , والطريق الشاق ينبغي أن يقطع بألطف ممكن ولاشك أن الرواحل إذا تعبت نهض الحادي يُنشدها , ولذا فإن أخذ الراحة للجد جدٌ , وغوص البحار في طلب الدر صعود , ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس , فليداوم النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واليستمع إلى قوله :" إن هذا الدين متين , فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولاظهراً أبقى " [رواه أحمد ] وعند البخاري في صحيحة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الدين يسر , ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه".
كثيرون هم أولئك الذين يشفقون من المتاعب وينفرون من الجهد والتكاليف , وهم كذلك يتساقطون إعياءً خلف صفوف الجادين من عباد الله , يتخللونها ضعافاً مسترخين , يخذلون أنفسهم في ساعات الشدة ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ الأعلى :16-17] نعم إن هناك ضعفا في البشر , ولا يملك الناس أن يتخلصوا منه , وليس مطلوباً منهم أن يتجاوزوا حدود بشريتهم , ولكن المطلوب أن يستمسكوا بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله في كل حين , وتجعل من التدين في جميع جوانب الحياة عندهم ثقافة وأسرةً وإعلاماً من الثوابت التي لاتتغير, ولا تخدع بها االنفس في موسم ما دون غيره كما أنهم تمنعهم في الوقت نفسه بإذن الله من التساقط وتحرسهم من الفترة بعد الشره مهما قلت مادامت على الدوام , فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون , فأن الله لا يمل حتى تملوا , وإن أحب الأعمال إلى الله مادام وإن قل"[ رواه البخاري ومسلم ]
ولا جرم أن نشير هاهنا إلى أن التحرر من الغلو والتشدد لا يعني الترك والإهمال , بل يغني التوسط والاعتدال , مع محافظة المرء على ما اعتاده من عمل , أو التزام في السلوك العام , قال عبدالله بن عمرو بن العاص رصي الله عنهما : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا عبد الله ,لا تكون مثل فلان , كان يقوم الليل فترك قيم الليل " [متفق عليه ] .
إن الإنهماك المستمر في العبادة والإغلاق على حقوق النفس والأهلين يعد إفراطا مذموما ليس من هدي سيد المرسلين وأعبد الناس لرب العالمين , له كونه سببا ً في التراجع والنكوص , كما أن الأمر في الوقت نفسه إن كان تقاصراً عن العبادة , أو انشغالاً عنها أو تركاً للحبل على الغارب مجانبة للتصحيح , أو الأرتقاء بالحال على مايريده الله ورسوله يعد تفريطاً ممقوتاً وكلا طرفي قصد الأمور ذميم , ويمثل ذلك تضييع المجتمعات المسلمة , بين إفراط وتفريط , ناشئين عن جهل وضلال , كما قال علي رضي الله عنه :" لايُرى الجاهل إلا مُفرطاًً " , ولفظ الإفراط والتفريط - عباد الله - لم يأت في القرآن على سبيل المدح إلا في نفيه عن كل صالح أو مصلح , يقول سبحانه عن الملائكة:
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ) [الأنعام :61] وقال عن موسى وهارون قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى)[ طه: 45] ويقول سبحانه : ( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ) [الزمر:56] ويقول سبحانه عن أهل النار ( قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ) [الأنعام :31] وقال جل شأنه: ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف :28]
والمراد هنا - عباد الله - : أن يتماسك المرء المسلم والمجتمعات المسلمة , فيكون لهم من صلابة عودهم الإسلامي وحسه مايحول بينهم وبين الفتور والضعف , أو التراجع عن الدين أو التخاذل عنه , وإذا مابدت هفوة أو غفلة ,سارعوا بالتيقظ ومعاودة التمسك , والاستجابة لكل ناصح مشفق , وهذا هو التوسط المحمود الذي اختصت به هذه الأمة من بين سائر الأمم .
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه *** ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود :112] والطغيان هنا هو ماتجاوز الحد في الأخذ أو الترك