فتى البورصة
06-04-2007, 08:39 AM
لقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الممثل الوحيد لتجلي صفة الرحمة والرحمانية لله تعالى في الأرض. واستعمل هذه الصفة كإكسير شاف لفتح القلوب والتربع على عروشها.
فصفة الشفقة والرأفة واللين في الإنسان هي العامل الثاني في جذب الناس وفتح قلوبها بعد صفة الإخلاص والتجرد الحقيقي.
لقد كانت رقة وجمال العالم الداخلي للرسول صلى الله عليه وسلم وقابليته غير الاعتيادية ورحمته وشفقته -اللتان كانتا بُعدًا آخر من أبعاد فطنته- من عوامل نجاحه التي استعملها واستغلها، ومن دلائل نبوته كذلك.
أجل؛ لقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين. لقد كان مرآة مجلوة تعكس رحمة الله تعالى. كأنه كان نبعًا وسط الصحارى أو حوض كوثر تقاطر عليه الجميع وفي يد كل منهم وعاؤه، يشرب حتى يطفئ ظمأه ويروي غلته ويملأ وعاءه. إنه بسرّ بُعد الرحمة المتجلية فيه مثل حوض كوثر للجميع، لمن أراد واستطاع الاستفادة منه.
غير أنه بفطنته الرائعة جعل الرحمة الموجودة في فطرته شِبَاك رحمة لصيد القلوب، فمن وجد نفسه في ذلك الجو الساحر وجد نفسه في طريق الجنة، وفي قمة الوجد. هكذا كانت "الرحمة" في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاحًا سحريًّا. وبهذا المفتاح فتح مغاليق أقفال صدئة لم يكن أحد يتوقع فتحها بأي مفتاح، وأشعل شعلة الإيمان في القلوب.. أجل، لقد سلّم هذا المفتاح الذهبي إلى محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أليق الناس به، والله تعالى دائمًا يسلم الأمانة لمن هو أهل لها.
لذا، سلّم مفتاح القلوب التي أعطاها أمانة للناس إلى من هو أكثر أهلية له من بين كل الناس وكل البشر؛ إلى محمد صلى الله عليه وسلم. لقد أرسله الله رحمة للعالمين، فقام صلى الله عليه وسلم بتقييم هذه الرحمة بشكل متوازن جدًّا؛ لأن التوازن شيء مهم في موضوع الرحمة.
الإفراط والتفريط في الرحمة
خدعة "الإنسانية"(Humanizm)
كان ذروة في كل شيء
الرحمة العالمية
الشفقة مع الأطفال
رحمة بالحيوانات.. أيضًا
الإفراط والتفريط في الرحمة
هناك إفراط وتفريط في مسألة الرحمة كما في المسائل الأخرى. ويمكن مشاهدة أفضل مثل على سوء استعمال الرحمة في فكر وتصرفات الماسونيين، فهم مع كونهم يتحدثون بمبالغة عن الحب وعن الإنسانية، نراهم لا يستطيعون إقامة أي علاقة حميمة مع أي شخص متدين، بل لو كان في مقدروهم أن يقتلوا كل شخص متدين ومسلم لفعلوا.
فالحب الذي يتحدثون عنه مقتصر عليهم وعلى من يفكر مثلهم، وهذا الحب في الحقيقة ليس الحب الخالص الذي نعرفه نحن، بل هو حب قائم على المنافع وعلى المصالح؛ بينما كانت رحمة سيد المرسلين رحمة متوازنة شاملة، لم تشمل الناس فقط، بل شملت الوجود بأجمعه.
يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يمثلها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك لأنه: {... بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128). ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضًا -إلى جانب المؤمنين- الاستفادة من هذه الرحمة كذلك. حتى إن لجبريل حصة من هذه الرحمة.[1]
انظروا وتأملوا مدى شمولية وسعة هذه الرحمة؛ بحيث إن الشيطان نفسه بعدما شاهد هذه الرحمة انبعث فيه بعض الأمل فيها.[2] الرحمة التي يمثلها غير مقتصرة على أناس معينين ولا على جماعات معينة، ولم يقم أبدًا باستغلال هذه الرحمة كما فعل البعض.
خدعة "الإنسانية"(Humanizm)
في أيامنا الحالية تيارات اتخذت من فكرة "الإنسانية" ستارًا لخداع الإنسان. وأنا أتساءل: ما الفرق بين هذا التصرف وبين تصرف العقارب والثعابين التي تقترب من الإنسان لتلدغه؟ إن الحب الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمثله لم يكن من هذا النوع أبدًا، ويجب ألا يخلط به.
إن مفهوم الحب في الإسلام حب متوازن يضم في إطاره الدنيا والآخرة كما هو شأنه في الأمور الأخرى كذلك. لقد احتضن محمد صلى الله عليه وسلم برسالته الإنسانية كلها، بل الوجود كله بالحب، غير أن حبه الواسع وشفقته الشاملة لم تبق في إطار الكلام أو في بطون الكتب كما فعل الآخرون، بل سرعان ما انعكست في الحياة العملية وبكل معانيها العميقة وأبعادها الشاملة. علمًا بأنه ما من فكر من أفكاره صلى الله عليه وسلم أو عمل من أعماله إلا وأخذ طريقه إلى التطبيق العملي؛ ذلك لأنه كان رجل فكر وحركة وعمل.
إن الرحمة الواسعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي ضمت الوجود كله بإخلاص؛ وجدت طريقها إلى التطبيق؛ لأنها كانت معنى منبعثًا بكل تجرد وإخلاص من قلب الوجود كله. فمثلاً نراه يعبر عن شفقته على الحيوان بمثالين حيين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن امرأة بغيًّا رأت كلبًا في يوم حارٍّ يُطِيف ببئرٍ، قد أَدْلَعَ لسانَه من العطَش، فنَزَعَتْ له بِـمُوقِها فغُفِر لها".[3]
ثم يروي صلى الله عليه وسلم حادثة مقابلة لذلك: "عُذِّبتْ امرأةٌ في هرّة سجنتْها حتى ماتت فدخلت فيها النارَ، لا هي أطعمتْها ولا سقتْها إذ حبستْها، ولا هي تركتْها تأكل من خَشَاش الأرض".[4]
كان ذروة في كل شيء
لقد جاء رسول الله ليبلغ رسالة الرحمة هذه، فقد كان المنهل العذب المورود. فمن جاءه وجد الرحمة عنده، ومن شرب ماء الحياة من يده فقد حصل ووصل إلى الخلود المعنوي. فيا ليت الذين سيقفون أمام حوض الكوثر بقدَر ولطف من الله تعالى يعلمون قدره وفضله صلى الله عليه وسلم حق العلم.
ولكي لا يبقى ما قلناه مفهومًا مجردًا؛ فإنني أود تقديم أمثلة ملموسة، غير أنني أود قبل هذا لفت انتباهكم إلى أنه كان ذروة في كل شيء. فهناك أناس يتقدمون الصفوف في بعض المسائل، ولكنا نجدهم في أواخر صفوف مسائل ومجالات أخرى.
مثلاً نرى القائد الموفق في ساحات القتال وفي فنون الحرب مهما بلغ في مهارته هذه، فإنه لا يكاد يبلغ درجة راعٍ بسيط في ساحات أخرى في الشفقة ورقة العاطفة والفهم، بل لكونه معتادًا على القتل، فلن يكون إنسانًا رحيمًا في معظم الأحوال. ذلك لأن عواطفه وأحاسيسه قد فقدت حساسيتها ورقتها من كثرة ما اقترف من أعمال القتل، فلا يشعر بأدنى عاطفة وهو يقوم بقتل إنسان.
وقد يكون هناك سياسي ناجح في ميدان السياسة، ولكنك قد تراه مبتعدًا عن الصدق بنسبة نجاحه هذا، وقد لا يحترم حقوق الناس. أي أن ابتعاده عن الصدق وعن المروءة بنسبة نجاحه في ميدان السياسة يكون أمرًا واردًا. وهذا يعني أن ارتفاعًا في ميدان ما قد يستتبعه هبوط في ميدان آخر.
كما تستطيع مشاهدة الإنسان الذي افتتن بتيار الوضعية (Positivism)؛ وهو يجري وراء إجراء التجارب على كل شيء. وكيف أن الحياة الروحية والقلبية لمثل هذا الرجل لا تتجاوز خط الصفر.
بل هناك أشخاص وصلوا بعقولهم إلى "قمة إفرست". ولكنهم في حياتهم القلبية والروحية هابطين إلى مستوى "البحر الميت" "بحيرة لوط". فكم من شخص انساب عقلُه إلى عينيه فلا يرى شيئًا سوى المادة، يقف ذاهلاً أحمق أمام منطق الوحي، قد عميت عيناه عن رؤية الحقيقة.
من هذا الشرح القصير نعرف أن هناك أشخاصاً ينجحون في ساحات وميادين معينة، ولكنهم يفشلون في ساحات وميادين أخرى أكثر أهمية. أي أن الصفات المتناقضة الموجودة في الإنسان تعمل إحداها ضد الأخرى. فعندما تتوسع صفة ما وتقوى يكن هذا ضد صفات أخرى، وعندما تنمو إحداها وتقوى تضمر الأخرى وتضعف.
ولكن هذا الأمر غير وارد بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إلى جانب كونه محاربًا كان صاحب شفقة عظيمة. كان سياسيًّا ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير.
وبينما كان يعطي أهمية للأمور الملموسة وللتجارب، فإنه كان ذروة في حياة الروح وفي حياة القلب. ويمكن العثور على أمثلة كثيرة بهذا الصدد في غزوة أُحد. ففي تلك الغزوة استشهد عمه حمزة رضي الله عنه الذي كان يراه شقيق نفسه. لم يُستشهد فقط، بل مُزّق جسده تمزيقاً.[5] كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً.[6] وشج رأسه المبارك، وكسرت أسنانه وغطى الدم جسده الشريف؛[7] وبينما كثّف أعداؤه الهجوم عليه جاهدين الوصول إليه لقتله كان هذا الإنسان العظيم فوق كل عظمة فاتحاً يديه يبتهل إلى الله تعالى قائلاً: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".[8] فما أعظم وما أروع هذه الشفقة من شخص يحاول أعداؤه قتله فلا يدعو عليهم، بل يبتهل لله تعالى أن يغفر لهم.
حتى فتح مكة لم يبق في يد أعدائه أيُّ وسيلة للإيذاء لم يجربوها معه ولم يوجهوها نحوه. تأملوا معي كيف أنهم أخرجوه هو ومن يقف معه من بيوتهم إلى منطقة صحراوية معلنين عليهم المقاطعة، ومعلقين بنود هذه المقاطعة الشريرة على جدار الكعبة، وكانت تقضي بعدم التعامل معهم بيعًا وشراء وعدم التزوج من بناتهم أو تزويج بناتهم لهم.
وقد دامت هذه المقاطعة ثلاث سنوات بحيث اضطروا إلى أكل العشب والجذور وأوراق الأشجار، حتى هلك منهم الأطفال والشيوخ من الجوع دون أن تهتز منهم شعرة، أو تتحرك عندهم عاطفة رحمة. ولم يكتفوا بهذا، بل اضطروهم لترك بيوتهم وأوطانهم والهجرة إلى أماكن أخرى بعيدة. ولم يدعوهم في راحة هناك فبدسائسهم المختلفة سلبوا منهم طعم الراحة والاطمئنان.
وفي غزوات بدر وأُحد والخندق اشتبكوا معهم في معارك ضارية، وحرموهم حتى من أبسط حقوقهم كزيارة الكعبة، وأرجعوهم إلى ديارهم بعد إبرام معاهدة ذات شروط قاسية. ولكن الله تعالى أنعم عليهم ففتحوا مكة ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جيش عظيم.
فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضًا؟ لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء". ولولا أنني أخذت هذا الدرس منه لما كنت قد تصرفت هكذا لو كنت في موقعه، ولا أشك أنكم تشاطرونني رأيي هذا.
ويدخل مكة على مركبه والدرع على صدره والمغفر على رأسه والسيف في يده والنبال على ظهره. ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجًا للشفقة والرأفة. سأل أهل مكة: "ما ترون أني فاعل بكم؟" فأجابوه: "خيرًا.. أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم". فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: {لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} (يوسف: 29) [9].
لم يقصر في حياته أبداً من ناحية اتخاذ الحيطة. وليس هناك من استطاع مثله الجمع بقوة بين اتخاذ التدبير والتوكل. عندما خرج بأصحابه إلى بدر امتحنهم. كان كل منهم كالطود الشامخ لا يخاف الوقوف وحده أمام جيش بكامله، وعندما قال له سعد بن معاذ -وفي رواية سعد بن عبادة-: "يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتَنا أن نخيضها البحار لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغِمَاد لفعلنا ما تخلَّف منا أحد" [10].
فإنه كان يعطي أنموذجًا لهؤلاء، ثم ما أكثر المعاني التي يحملها قوله للرسول صلى الله عليه وسلم: "فصِلْ حِبال من شئتَ واقطعْ حبال من شئت وعادِ من شئت وسالِمْ من شئت وخذ من أموالنا ما شئت". [11].
كان المقاتلون متهيئين فكأن كل واحد منهم سعد بن معاذ، ومع ذلك لم يقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتخاذ التدابير، بل كان يهيئ كل الوسائل والأمور الضرورية للحرب. وبعد هذا الدعاء الفعلي -لأن اتخاذ الوسائل دعاء فعلي- رفع يديه إلى السماء مبتهلاً إلى الله من كل قلبه ضارعاً وملتجئاً إليه.
واندمج في دعائه بحيث كان رداؤه يسقط دون أن يشعر بذلك ولم يتحمل أبو بكر الذي كان يراقب هذا المنظر، فكان يعيد عليه رداءه ويقول: "يا نبيّ الله! كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك".[12] فمثل هذا المستوى الرفيع من التوكل على رب العالمين بعد اتخاذ كل هذه التدابير صفة تميز بها ذلك الإنسان.. إنسان الذروة صلى الله عليه وسلم.
الرحمة العالمية
لقد ذكرت في بداية هذا الموضوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مثال الرحمة التي استفاد منها الكل؛ المؤمن والكافر والمنافق. يستفيد المؤمن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقول بأنه أقرب للمؤمنين من أنفسهم.
صحيح أن المفسرين يقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أعز وأحب إلى المؤمنين من أنفسهم، استناداً إلى الآية الكريمة: {النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6). ولكن الحقيقة أن المعنيين متقاربان من بعضهما، فنحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يحب من يحمل له هذه العاطفة بالحب نفسه؛ ذلك لأنه رجل مروءة كبير.
هذا حب عقلي ومنطقي، ومع أن لهذا الحب جانبه العاطفي إلا أن بُعد المعرفة وعمق المنطق يشكلان الجانب الأساسي فيه. ولو تم بحث هذا الموضوع وتسليط الأضواء عليه، تجذر هذا الحب عند الإنسان وقوي إلى درجة أن يسير وراء ذكره كما سار "قيس" وراء ليلاه، وكلما ذكر اسمه أحس كأن دخاناً يخرج من أنفه، ويُعِدّ حياته التي انقضت دون رؤيته كأنها حياة منفى وهجر.
أجل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب إلينا من أنفسنا. كيف لا ونحن نرى الكثير من الشرور والآثام من أنفسنا، بينما لم نرَ منه سوى الكرم والرحمة والخير والشفقة والمروءة، فهو يمثل الرحمة الإلهية؛ لذا فلا شك أنه أقرب إلينا من أنفسنا.
وعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أقرب إلى المؤمنين من أنفسهم فقد صدق، فالله تعالى يقول {النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي وعليه ديْن فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته".[13]
وبداية هذا الحديث:... عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين، فيسأل: "هل ترك لدينه من قضاء؟"، فإن حدث أنه ترك وفاء صلَّى عليه، وإلا قال: "صلّوا على صاحبكم". فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته".[14] وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم في الدنيا والآخرة يُعَدّ رحمة، وناحية الرحمة هذه مستمرة إلى الأبد.
كان رحمة للمنافقين أيضًا. فبسبب هذه الرحمة الواسعة لم يرَ المنافقون العذاب في الحياة الدنيا. فقد حضروا إلى المسجد واختلطوا بالمسلمين واستفادوا من كل الحقوق التي تمتع بها المسلمون. ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضحهم وإفشاء أسرار نفاقهم أبداً مع أنه كان يعرف دخائل نفوسهم ونفاقهم، حتى إنه أخبر حُذيفة رضي الله عنه بذلك [15]. لذا، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراقب حُذيفة، فإن رآه لا يصلي على جنازة لم يصلها هو كذلك.[16]
ومع ذلك فلم يهتك الإسلام سرهم، فبقوا بين المؤمنين، وانقلب كفرهم المطلق إلى ريبة وشك على الأقل، فلم يحرموا من لذائذ الدنيا؛ لأن الإنسان الذي يعتقد أنه سيفنى ويذهب إلى العدم لا يمكن أن يهنأ في عيشه، ولكن إن انقلب كفره إلى شك وشبهة فإنه يقول في نفسه: "ربما توجد هناك حياة أخروية"، عندئذ لن تكفهر حياته تمام الاكفهرار. ومن هذا المنطلق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لهم بهذا المعنى.
كما استفاد الكفار من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى كان يهلك من قبل الأمم الكافرة بسبب كفرها وعصيانها هلاكاً جماعياًّ، بينما رفع الله تعالى بعد بعثة نبينا هذا الهلاك الجماعي، فاستفاد الناس من خلاصهم من مثل هذا العذاب، فكان ذلك نعمة دنيوية بالنسبة للكفار. يخاطب الله تعالى نبيه في هذا الخصوص فيقول: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (الأنفال: 33).
أجل، فمن أجل حرمة النبي صلى الله عليه وسلم رفع الله تعالى العذاب والهلاك الجماعي. وبينما كان النبي عيسى عليه السلام يقول لله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} (المائدة: 118). نرى أن الله تعالى يقول لنبيه: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
فتأمل قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله، أي طالما أنت تعيش بينهم فلن يعذبهم الله. طالما أن ذكرك موجود، وتلهج به الألسنة، وطالما أن الناس يتبعون طريقك فلن يعذبهم الله ولن يهلكهم.
وإحدى الجهات التي استفاد الكفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لم أُبعث لعّاناً، وإنما بُعثت رحمة".[17] أي إنني بعثت رحمة من قبل الله تعالى للناس أجمعين، ولم أبعث لكي أستمطر اللعنة والبلايا والمصائب على الناس. ولهذا تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتداء ألدّ أعداء الإسلام، وبذل كل جهوده ومساعيه لتحقيق هذا.
حتى جبريل عليه السلام قد استفاد من النور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يشير إلى القرآن: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟" قال: "نعم، كنت أخشى العاقبة، فأمنت لثناء الله عز وجل عليّ بقوله: {ذي قوة عند ذي العرش مكين * مُطاعٍ ثَمّ أمين} (التكوير: 20-21)" [18].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "أنا محمد وأحمد والمقفَّى[19]، وأنا الحاشر[20]، ونبي التوبة ونبي الرحمة".[21] وباب التوبة مفتوح حتى يوم القيامة؛ لأن رسول الله نبيُّ الرحمة والتوبة، ونبوته وحكمه ماض إلى يوم القيامة.
كان إذا رأى طفلاً أو صبيًّا يبكي جلس وبكى معه؛ إذ يشعر في وجدانه ألم الأم وعذابها. ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه نجد نموذج هذه الرحمة، وهذه الشفقة التي لهجت بها الألسن؛ إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وَجْد أمه به".[22]
كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلة، ولا سيما النوافل منها؛ إذ كانت تتجاوز طاقة الصحابة، ولكنه عندما يقف للصلاة يريد إطالتها ويسمع بكاء طفل في أثنائها؛ إذ به يخفف صلاته ويتَجوَّز فيها؛ ذلك لأن النساء كن يقفن للصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يشتركن في أداء صلاة الجماعة خلفه، فخوفاً من أن تكون أم ذلك الطفل موجودة بين المصليات فإنه كان يخفف صلاته، ويسرع بها لكي يريح قلب تلك الأم.
كان في كل مسألة نموذجًا للشفقة؛ فبكاء طفل كان يؤلمه، بل كان يبكيه. ولكن المهم هو أنه بكل شفقته الواسعة الباهرة، ورحمته كان متوازنًا، فمثلاً رحمته الواسعة هذه لم تكن حائلة أمامه في تطبيق الحدود الشرعية؛ مهما كان شكل هذه الحدود وكيفيتها.
جاءه أحد الصحابة وهو ماعز رضي الله عنه قائلاً له: "طهِّرْني يا رسول الله". فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: "ويحك، اِرْجِعْ فاستغفر الله وتب إليه". إلا أن ماعزاً كان يُصِرّ على التطهر ويطلبه. وعندما كرّر طلبه للمرة الرابعة سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: "فيم أطهرك؟"، فقال ماعز: من الزنى يا رسول الله.
كان ماعز متزوجًا، أي محصنًا، وعقاب الزنى للمحصن هو القتل رجماً. ولكي يبقى هذا الأمر منقوشاً في الأذهان حتى يوم القيامة فقد التفت إلى من حوله سائلاً: "أبه جنون؟" فأُخبر أنه ليس بمجنون. وفي رواية: ما نعلمه إلا وفيّ العقل، من صالحينا فيما نرى.
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشَرب خمراً؟" فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز: "أزَنيت؟" فقال: نعم. فأمر برجمه، فسيق ماعز إلى المصلى لرجمه، فلما أصابته الحجارة أدبر يشتد، فلقيه رجل بيده لحي جمل فضربه فصرعه، فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فراره. فقال: "فهلاَّ تركتموه".
فكان الناس فيه فرقتين، فقائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئة، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة. فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، فسلّم ثم جلس فقال: "استغفروا لماعز بن مالك" فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تاب توبة لو قُسِّمت بين أمة لَوَسِعتهم"[23]. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل موازنة، ولو فرضنا المستحيل وقلنا إن ماعزًا عاد للحياة، واقترف الذنب نفسه لكرر الرسول صلى الله عليه وسلم العقاب نفسه.
كان لدى بني مقرّن خادمة، فلطمها أحدهم، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باكية، فاستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم مالكها قائلاً له: "أَعتِقوها"، فقالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال: "فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها، فليخلّوا سبيلها". [24] أجل، فلو بقي إثم هذه اللطمة الظالمة ليوم الحساب لكانت اللطمات هناك أشد وأقسى؛ لذا كان العتق هو بديل هذه اللطمة لكي تكن ديتها يوم القيامة عن عذاب جهنم[25].
فصفة الشفقة والرأفة واللين في الإنسان هي العامل الثاني في جذب الناس وفتح قلوبها بعد صفة الإخلاص والتجرد الحقيقي.
لقد كانت رقة وجمال العالم الداخلي للرسول صلى الله عليه وسلم وقابليته غير الاعتيادية ورحمته وشفقته -اللتان كانتا بُعدًا آخر من أبعاد فطنته- من عوامل نجاحه التي استعملها واستغلها، ومن دلائل نبوته كذلك.
أجل؛ لقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين. لقد كان مرآة مجلوة تعكس رحمة الله تعالى. كأنه كان نبعًا وسط الصحارى أو حوض كوثر تقاطر عليه الجميع وفي يد كل منهم وعاؤه، يشرب حتى يطفئ ظمأه ويروي غلته ويملأ وعاءه. إنه بسرّ بُعد الرحمة المتجلية فيه مثل حوض كوثر للجميع، لمن أراد واستطاع الاستفادة منه.
غير أنه بفطنته الرائعة جعل الرحمة الموجودة في فطرته شِبَاك رحمة لصيد القلوب، فمن وجد نفسه في ذلك الجو الساحر وجد نفسه في طريق الجنة، وفي قمة الوجد. هكذا كانت "الرحمة" في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاحًا سحريًّا. وبهذا المفتاح فتح مغاليق أقفال صدئة لم يكن أحد يتوقع فتحها بأي مفتاح، وأشعل شعلة الإيمان في القلوب.. أجل، لقد سلّم هذا المفتاح الذهبي إلى محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أليق الناس به، والله تعالى دائمًا يسلم الأمانة لمن هو أهل لها.
لذا، سلّم مفتاح القلوب التي أعطاها أمانة للناس إلى من هو أكثر أهلية له من بين كل الناس وكل البشر؛ إلى محمد صلى الله عليه وسلم. لقد أرسله الله رحمة للعالمين، فقام صلى الله عليه وسلم بتقييم هذه الرحمة بشكل متوازن جدًّا؛ لأن التوازن شيء مهم في موضوع الرحمة.
الإفراط والتفريط في الرحمة
خدعة "الإنسانية"(Humanizm)
كان ذروة في كل شيء
الرحمة العالمية
الشفقة مع الأطفال
رحمة بالحيوانات.. أيضًا
الإفراط والتفريط في الرحمة
هناك إفراط وتفريط في مسألة الرحمة كما في المسائل الأخرى. ويمكن مشاهدة أفضل مثل على سوء استعمال الرحمة في فكر وتصرفات الماسونيين، فهم مع كونهم يتحدثون بمبالغة عن الحب وعن الإنسانية، نراهم لا يستطيعون إقامة أي علاقة حميمة مع أي شخص متدين، بل لو كان في مقدروهم أن يقتلوا كل شخص متدين ومسلم لفعلوا.
فالحب الذي يتحدثون عنه مقتصر عليهم وعلى من يفكر مثلهم، وهذا الحب في الحقيقة ليس الحب الخالص الذي نعرفه نحن، بل هو حب قائم على المنافع وعلى المصالح؛ بينما كانت رحمة سيد المرسلين رحمة متوازنة شاملة، لم تشمل الناس فقط، بل شملت الوجود بأجمعه.
يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يمثلها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك لأنه: {... بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128). ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضًا -إلى جانب المؤمنين- الاستفادة من هذه الرحمة كذلك. حتى إن لجبريل حصة من هذه الرحمة.[1]
انظروا وتأملوا مدى شمولية وسعة هذه الرحمة؛ بحيث إن الشيطان نفسه بعدما شاهد هذه الرحمة انبعث فيه بعض الأمل فيها.[2] الرحمة التي يمثلها غير مقتصرة على أناس معينين ولا على جماعات معينة، ولم يقم أبدًا باستغلال هذه الرحمة كما فعل البعض.
خدعة "الإنسانية"(Humanizm)
في أيامنا الحالية تيارات اتخذت من فكرة "الإنسانية" ستارًا لخداع الإنسان. وأنا أتساءل: ما الفرق بين هذا التصرف وبين تصرف العقارب والثعابين التي تقترب من الإنسان لتلدغه؟ إن الحب الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمثله لم يكن من هذا النوع أبدًا، ويجب ألا يخلط به.
إن مفهوم الحب في الإسلام حب متوازن يضم في إطاره الدنيا والآخرة كما هو شأنه في الأمور الأخرى كذلك. لقد احتضن محمد صلى الله عليه وسلم برسالته الإنسانية كلها، بل الوجود كله بالحب، غير أن حبه الواسع وشفقته الشاملة لم تبق في إطار الكلام أو في بطون الكتب كما فعل الآخرون، بل سرعان ما انعكست في الحياة العملية وبكل معانيها العميقة وأبعادها الشاملة. علمًا بأنه ما من فكر من أفكاره صلى الله عليه وسلم أو عمل من أعماله إلا وأخذ طريقه إلى التطبيق العملي؛ ذلك لأنه كان رجل فكر وحركة وعمل.
إن الرحمة الواسعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي ضمت الوجود كله بإخلاص؛ وجدت طريقها إلى التطبيق؛ لأنها كانت معنى منبعثًا بكل تجرد وإخلاص من قلب الوجود كله. فمثلاً نراه يعبر عن شفقته على الحيوان بمثالين حيين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن امرأة بغيًّا رأت كلبًا في يوم حارٍّ يُطِيف ببئرٍ، قد أَدْلَعَ لسانَه من العطَش، فنَزَعَتْ له بِـمُوقِها فغُفِر لها".[3]
ثم يروي صلى الله عليه وسلم حادثة مقابلة لذلك: "عُذِّبتْ امرأةٌ في هرّة سجنتْها حتى ماتت فدخلت فيها النارَ، لا هي أطعمتْها ولا سقتْها إذ حبستْها، ولا هي تركتْها تأكل من خَشَاش الأرض".[4]
كان ذروة في كل شيء
لقد جاء رسول الله ليبلغ رسالة الرحمة هذه، فقد كان المنهل العذب المورود. فمن جاءه وجد الرحمة عنده، ومن شرب ماء الحياة من يده فقد حصل ووصل إلى الخلود المعنوي. فيا ليت الذين سيقفون أمام حوض الكوثر بقدَر ولطف من الله تعالى يعلمون قدره وفضله صلى الله عليه وسلم حق العلم.
ولكي لا يبقى ما قلناه مفهومًا مجردًا؛ فإنني أود تقديم أمثلة ملموسة، غير أنني أود قبل هذا لفت انتباهكم إلى أنه كان ذروة في كل شيء. فهناك أناس يتقدمون الصفوف في بعض المسائل، ولكنا نجدهم في أواخر صفوف مسائل ومجالات أخرى.
مثلاً نرى القائد الموفق في ساحات القتال وفي فنون الحرب مهما بلغ في مهارته هذه، فإنه لا يكاد يبلغ درجة راعٍ بسيط في ساحات أخرى في الشفقة ورقة العاطفة والفهم، بل لكونه معتادًا على القتل، فلن يكون إنسانًا رحيمًا في معظم الأحوال. ذلك لأن عواطفه وأحاسيسه قد فقدت حساسيتها ورقتها من كثرة ما اقترف من أعمال القتل، فلا يشعر بأدنى عاطفة وهو يقوم بقتل إنسان.
وقد يكون هناك سياسي ناجح في ميدان السياسة، ولكنك قد تراه مبتعدًا عن الصدق بنسبة نجاحه هذا، وقد لا يحترم حقوق الناس. أي أن ابتعاده عن الصدق وعن المروءة بنسبة نجاحه في ميدان السياسة يكون أمرًا واردًا. وهذا يعني أن ارتفاعًا في ميدان ما قد يستتبعه هبوط في ميدان آخر.
كما تستطيع مشاهدة الإنسان الذي افتتن بتيار الوضعية (Positivism)؛ وهو يجري وراء إجراء التجارب على كل شيء. وكيف أن الحياة الروحية والقلبية لمثل هذا الرجل لا تتجاوز خط الصفر.
بل هناك أشخاص وصلوا بعقولهم إلى "قمة إفرست". ولكنهم في حياتهم القلبية والروحية هابطين إلى مستوى "البحر الميت" "بحيرة لوط". فكم من شخص انساب عقلُه إلى عينيه فلا يرى شيئًا سوى المادة، يقف ذاهلاً أحمق أمام منطق الوحي، قد عميت عيناه عن رؤية الحقيقة.
من هذا الشرح القصير نعرف أن هناك أشخاصاً ينجحون في ساحات وميادين معينة، ولكنهم يفشلون في ساحات وميادين أخرى أكثر أهمية. أي أن الصفات المتناقضة الموجودة في الإنسان تعمل إحداها ضد الأخرى. فعندما تتوسع صفة ما وتقوى يكن هذا ضد صفات أخرى، وعندما تنمو إحداها وتقوى تضمر الأخرى وتضعف.
ولكن هذا الأمر غير وارد بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إلى جانب كونه محاربًا كان صاحب شفقة عظيمة. كان سياسيًّا ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير.
وبينما كان يعطي أهمية للأمور الملموسة وللتجارب، فإنه كان ذروة في حياة الروح وفي حياة القلب. ويمكن العثور على أمثلة كثيرة بهذا الصدد في غزوة أُحد. ففي تلك الغزوة استشهد عمه حمزة رضي الله عنه الذي كان يراه شقيق نفسه. لم يُستشهد فقط، بل مُزّق جسده تمزيقاً.[5] كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً.[6] وشج رأسه المبارك، وكسرت أسنانه وغطى الدم جسده الشريف؛[7] وبينما كثّف أعداؤه الهجوم عليه جاهدين الوصول إليه لقتله كان هذا الإنسان العظيم فوق كل عظمة فاتحاً يديه يبتهل إلى الله تعالى قائلاً: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".[8] فما أعظم وما أروع هذه الشفقة من شخص يحاول أعداؤه قتله فلا يدعو عليهم، بل يبتهل لله تعالى أن يغفر لهم.
حتى فتح مكة لم يبق في يد أعدائه أيُّ وسيلة للإيذاء لم يجربوها معه ولم يوجهوها نحوه. تأملوا معي كيف أنهم أخرجوه هو ومن يقف معه من بيوتهم إلى منطقة صحراوية معلنين عليهم المقاطعة، ومعلقين بنود هذه المقاطعة الشريرة على جدار الكعبة، وكانت تقضي بعدم التعامل معهم بيعًا وشراء وعدم التزوج من بناتهم أو تزويج بناتهم لهم.
وقد دامت هذه المقاطعة ثلاث سنوات بحيث اضطروا إلى أكل العشب والجذور وأوراق الأشجار، حتى هلك منهم الأطفال والشيوخ من الجوع دون أن تهتز منهم شعرة، أو تتحرك عندهم عاطفة رحمة. ولم يكتفوا بهذا، بل اضطروهم لترك بيوتهم وأوطانهم والهجرة إلى أماكن أخرى بعيدة. ولم يدعوهم في راحة هناك فبدسائسهم المختلفة سلبوا منهم طعم الراحة والاطمئنان.
وفي غزوات بدر وأُحد والخندق اشتبكوا معهم في معارك ضارية، وحرموهم حتى من أبسط حقوقهم كزيارة الكعبة، وأرجعوهم إلى ديارهم بعد إبرام معاهدة ذات شروط قاسية. ولكن الله تعالى أنعم عليهم ففتحوا مكة ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جيش عظيم.
فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضًا؟ لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء". ولولا أنني أخذت هذا الدرس منه لما كنت قد تصرفت هكذا لو كنت في موقعه، ولا أشك أنكم تشاطرونني رأيي هذا.
ويدخل مكة على مركبه والدرع على صدره والمغفر على رأسه والسيف في يده والنبال على ظهره. ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجًا للشفقة والرأفة. سأل أهل مكة: "ما ترون أني فاعل بكم؟" فأجابوه: "خيرًا.. أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم". فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: {لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} (يوسف: 29) [9].
لم يقصر في حياته أبداً من ناحية اتخاذ الحيطة. وليس هناك من استطاع مثله الجمع بقوة بين اتخاذ التدبير والتوكل. عندما خرج بأصحابه إلى بدر امتحنهم. كان كل منهم كالطود الشامخ لا يخاف الوقوف وحده أمام جيش بكامله، وعندما قال له سعد بن معاذ -وفي رواية سعد بن عبادة-: "يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتَنا أن نخيضها البحار لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغِمَاد لفعلنا ما تخلَّف منا أحد" [10].
فإنه كان يعطي أنموذجًا لهؤلاء، ثم ما أكثر المعاني التي يحملها قوله للرسول صلى الله عليه وسلم: "فصِلْ حِبال من شئتَ واقطعْ حبال من شئت وعادِ من شئت وسالِمْ من شئت وخذ من أموالنا ما شئت". [11].
كان المقاتلون متهيئين فكأن كل واحد منهم سعد بن معاذ، ومع ذلك لم يقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتخاذ التدابير، بل كان يهيئ كل الوسائل والأمور الضرورية للحرب. وبعد هذا الدعاء الفعلي -لأن اتخاذ الوسائل دعاء فعلي- رفع يديه إلى السماء مبتهلاً إلى الله من كل قلبه ضارعاً وملتجئاً إليه.
واندمج في دعائه بحيث كان رداؤه يسقط دون أن يشعر بذلك ولم يتحمل أبو بكر الذي كان يراقب هذا المنظر، فكان يعيد عليه رداءه ويقول: "يا نبيّ الله! كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك".[12] فمثل هذا المستوى الرفيع من التوكل على رب العالمين بعد اتخاذ كل هذه التدابير صفة تميز بها ذلك الإنسان.. إنسان الذروة صلى الله عليه وسلم.
الرحمة العالمية
لقد ذكرت في بداية هذا الموضوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مثال الرحمة التي استفاد منها الكل؛ المؤمن والكافر والمنافق. يستفيد المؤمن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقول بأنه أقرب للمؤمنين من أنفسهم.
صحيح أن المفسرين يقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أعز وأحب إلى المؤمنين من أنفسهم، استناداً إلى الآية الكريمة: {النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6). ولكن الحقيقة أن المعنيين متقاربان من بعضهما، فنحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يحب من يحمل له هذه العاطفة بالحب نفسه؛ ذلك لأنه رجل مروءة كبير.
هذا حب عقلي ومنطقي، ومع أن لهذا الحب جانبه العاطفي إلا أن بُعد المعرفة وعمق المنطق يشكلان الجانب الأساسي فيه. ولو تم بحث هذا الموضوع وتسليط الأضواء عليه، تجذر هذا الحب عند الإنسان وقوي إلى درجة أن يسير وراء ذكره كما سار "قيس" وراء ليلاه، وكلما ذكر اسمه أحس كأن دخاناً يخرج من أنفه، ويُعِدّ حياته التي انقضت دون رؤيته كأنها حياة منفى وهجر.
أجل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب إلينا من أنفسنا. كيف لا ونحن نرى الكثير من الشرور والآثام من أنفسنا، بينما لم نرَ منه سوى الكرم والرحمة والخير والشفقة والمروءة، فهو يمثل الرحمة الإلهية؛ لذا فلا شك أنه أقرب إلينا من أنفسنا.
وعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أقرب إلى المؤمنين من أنفسهم فقد صدق، فالله تعالى يقول {النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي وعليه ديْن فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته".[13]
وبداية هذا الحديث:... عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين، فيسأل: "هل ترك لدينه من قضاء؟"، فإن حدث أنه ترك وفاء صلَّى عليه، وإلا قال: "صلّوا على صاحبكم". فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته".[14] وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم في الدنيا والآخرة يُعَدّ رحمة، وناحية الرحمة هذه مستمرة إلى الأبد.
كان رحمة للمنافقين أيضًا. فبسبب هذه الرحمة الواسعة لم يرَ المنافقون العذاب في الحياة الدنيا. فقد حضروا إلى المسجد واختلطوا بالمسلمين واستفادوا من كل الحقوق التي تمتع بها المسلمون. ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضحهم وإفشاء أسرار نفاقهم أبداً مع أنه كان يعرف دخائل نفوسهم ونفاقهم، حتى إنه أخبر حُذيفة رضي الله عنه بذلك [15]. لذا، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراقب حُذيفة، فإن رآه لا يصلي على جنازة لم يصلها هو كذلك.[16]
ومع ذلك فلم يهتك الإسلام سرهم، فبقوا بين المؤمنين، وانقلب كفرهم المطلق إلى ريبة وشك على الأقل، فلم يحرموا من لذائذ الدنيا؛ لأن الإنسان الذي يعتقد أنه سيفنى ويذهب إلى العدم لا يمكن أن يهنأ في عيشه، ولكن إن انقلب كفره إلى شك وشبهة فإنه يقول في نفسه: "ربما توجد هناك حياة أخروية"، عندئذ لن تكفهر حياته تمام الاكفهرار. ومن هذا المنطلق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لهم بهذا المعنى.
كما استفاد الكفار من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى كان يهلك من قبل الأمم الكافرة بسبب كفرها وعصيانها هلاكاً جماعياًّ، بينما رفع الله تعالى بعد بعثة نبينا هذا الهلاك الجماعي، فاستفاد الناس من خلاصهم من مثل هذا العذاب، فكان ذلك نعمة دنيوية بالنسبة للكفار. يخاطب الله تعالى نبيه في هذا الخصوص فيقول: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (الأنفال: 33).
أجل، فمن أجل حرمة النبي صلى الله عليه وسلم رفع الله تعالى العذاب والهلاك الجماعي. وبينما كان النبي عيسى عليه السلام يقول لله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} (المائدة: 118). نرى أن الله تعالى يقول لنبيه: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
فتأمل قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله، أي طالما أنت تعيش بينهم فلن يعذبهم الله. طالما أن ذكرك موجود، وتلهج به الألسنة، وطالما أن الناس يتبعون طريقك فلن يعذبهم الله ولن يهلكهم.
وإحدى الجهات التي استفاد الكفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لم أُبعث لعّاناً، وإنما بُعثت رحمة".[17] أي إنني بعثت رحمة من قبل الله تعالى للناس أجمعين، ولم أبعث لكي أستمطر اللعنة والبلايا والمصائب على الناس. ولهذا تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتداء ألدّ أعداء الإسلام، وبذل كل جهوده ومساعيه لتحقيق هذا.
حتى جبريل عليه السلام قد استفاد من النور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يشير إلى القرآن: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟" قال: "نعم، كنت أخشى العاقبة، فأمنت لثناء الله عز وجل عليّ بقوله: {ذي قوة عند ذي العرش مكين * مُطاعٍ ثَمّ أمين} (التكوير: 20-21)" [18].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "أنا محمد وأحمد والمقفَّى[19]، وأنا الحاشر[20]، ونبي التوبة ونبي الرحمة".[21] وباب التوبة مفتوح حتى يوم القيامة؛ لأن رسول الله نبيُّ الرحمة والتوبة، ونبوته وحكمه ماض إلى يوم القيامة.
كان إذا رأى طفلاً أو صبيًّا يبكي جلس وبكى معه؛ إذ يشعر في وجدانه ألم الأم وعذابها. ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه نجد نموذج هذه الرحمة، وهذه الشفقة التي لهجت بها الألسن؛ إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وَجْد أمه به".[22]
كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلة، ولا سيما النوافل منها؛ إذ كانت تتجاوز طاقة الصحابة، ولكنه عندما يقف للصلاة يريد إطالتها ويسمع بكاء طفل في أثنائها؛ إذ به يخفف صلاته ويتَجوَّز فيها؛ ذلك لأن النساء كن يقفن للصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يشتركن في أداء صلاة الجماعة خلفه، فخوفاً من أن تكون أم ذلك الطفل موجودة بين المصليات فإنه كان يخفف صلاته، ويسرع بها لكي يريح قلب تلك الأم.
كان في كل مسألة نموذجًا للشفقة؛ فبكاء طفل كان يؤلمه، بل كان يبكيه. ولكن المهم هو أنه بكل شفقته الواسعة الباهرة، ورحمته كان متوازنًا، فمثلاً رحمته الواسعة هذه لم تكن حائلة أمامه في تطبيق الحدود الشرعية؛ مهما كان شكل هذه الحدود وكيفيتها.
جاءه أحد الصحابة وهو ماعز رضي الله عنه قائلاً له: "طهِّرْني يا رسول الله". فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: "ويحك، اِرْجِعْ فاستغفر الله وتب إليه". إلا أن ماعزاً كان يُصِرّ على التطهر ويطلبه. وعندما كرّر طلبه للمرة الرابعة سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: "فيم أطهرك؟"، فقال ماعز: من الزنى يا رسول الله.
كان ماعز متزوجًا، أي محصنًا، وعقاب الزنى للمحصن هو القتل رجماً. ولكي يبقى هذا الأمر منقوشاً في الأذهان حتى يوم القيامة فقد التفت إلى من حوله سائلاً: "أبه جنون؟" فأُخبر أنه ليس بمجنون. وفي رواية: ما نعلمه إلا وفيّ العقل، من صالحينا فيما نرى.
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشَرب خمراً؟" فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز: "أزَنيت؟" فقال: نعم. فأمر برجمه، فسيق ماعز إلى المصلى لرجمه، فلما أصابته الحجارة أدبر يشتد، فلقيه رجل بيده لحي جمل فضربه فصرعه، فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فراره. فقال: "فهلاَّ تركتموه".
فكان الناس فيه فرقتين، فقائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئة، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة. فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، فسلّم ثم جلس فقال: "استغفروا لماعز بن مالك" فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تاب توبة لو قُسِّمت بين أمة لَوَسِعتهم"[23]. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل موازنة، ولو فرضنا المستحيل وقلنا إن ماعزًا عاد للحياة، واقترف الذنب نفسه لكرر الرسول صلى الله عليه وسلم العقاب نفسه.
كان لدى بني مقرّن خادمة، فلطمها أحدهم، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باكية، فاستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم مالكها قائلاً له: "أَعتِقوها"، فقالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال: "فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها، فليخلّوا سبيلها". [24] أجل، فلو بقي إثم هذه اللطمة الظالمة ليوم الحساب لكانت اللطمات هناك أشد وأقسى؛ لذا كان العتق هو بديل هذه اللطمة لكي تكن ديتها يوم القيامة عن عذاب جهنم[25].