شرح حديثين متعارضين في الظاهر
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((
لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولاصفر )) متفق عليه ــ وما نوع النفي في الحديث
؟ وكيف نجمع وبينه وبين حديث : ((
فر من المجذوم فرارك من الأسد ))
؟
فأجاب قائلا: العدوى انتقال المرض من المريض إلى الصحيح ، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون في الامراض المعنوية الخلقية ، ولهذا
أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن جليس السوء كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه رائحة كريهة
فقوله صلى الله عليه وسلم : (
عدوى) يشمل العدوى
الحسية والمعنوية.
و(
الطيرة) هي التشاؤم بمرئي أو
مسموع أو
معلوم.
و(الهامة) فسرت بتفسرين:
الأول : داء
يصيب المريض وينتقل إلى غيره ، وعلى هذا
التفسير يكون عطفها على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثاني: طير معروف تزعم العرب أنه قتل القتيل
فإنه هذه الهامة تأتي إلى أهله وتنعق على رؤوسهم حتى يأخذوا بثأره ، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه تكون بصورة الهامة وهي نوع من الطيور
تشبه البومة أو هي البومة ،
تؤذي أهل القتيل بالصراخ حتى يأخذوا بثأره ، وهم
يتشاءمون بها ، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت
قالوا : إنها تنعق به ليموت ، ويعتقدون قرب أجله .
وهذا باطل.
و(صفر) فسر بتفاسير:
الأول : أنه شهر صفر المعروف ، والعرب يتشاءمون به.
الثاني: أنه داء في البطن يصيب البعير وينتقل من بعير إلى آخر ، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثالث: صفر شهر صفر ، والمراد به النسيء الذي يضل به الذين كفروا ، فيؤخرون تحريم شهر المحرم إلى صفر يحلونه عاما، ويحرمونه عاما.
وأرجحها أن المراد (
شهر صفر) حيث كانوا يتشاءمون به في الجاهلية، والأزمنة لا دخل لها في التأثير ،
وفي تقدير الله عزوجل فهو كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر.
وبعض الناس إذا انتهى من عمل معين في اليوم الخامس والعشرين مثلا
من شهر صفر أرخ ذلك وقال : انتهى في الخامس والعشرين
من شهر صفر الخير .
فهذا من باب مداواة البدعة بالبدعة ، والجهل
بالجهل . فهو ليس شهر خير ، ولا شهر . ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق
قال : خيرا إن شاء الله ،فلا يقال : خير ولا شر ،بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب التوكل على الله ، وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أمام هذه الأمور .
وإذا ألقى المسلم باله لهذا الأمور فلا يخلو من حالتين:
الأولى: إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم ، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له.
الثانية : أن لا يستجيب بأن يقوم ولا يبالي ، لكن
يبقى في نفسه نوع من الهم والغم وهذا وإن كان أهون من الأول لكن يجب أن لايستجيب لداعي هذه الأمور مطلقا ،
وأن يكون معتمدا على الله عزوجل .
وبعض الناس يفتح المصحف لطلب التفاؤل ، فإذا نظر ذكر أهل النار
قال : هذا فأل غير جميل ، وإذا نظر ذكر الجنة قال : هذا فأل طيب ،
وهذا في الخقيقة مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
ولنفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفيا للوجود ،
لأنها موجودة ، ولكنه نفي للتأثير ،
فالمؤثر هو الله ، فما كان منها سببا معلوما
فهو سبب صحيح ، وما كان منها سببا موهوما
فهو سبب بطل ، ويكون نفيا لتأثيره بنفسه ولسببيته ،
فالعدوى موجودة ، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم : (
لا يوردن ممرض على مصح ) أي
لا يورد صاحب الابل المريضة على صاحب الصحيحة ،
لئلا تنتقل العدوى وقوله صلى الله عليه وسلم (
فر من المجذوم فرارك من الأسد )
الجذام : مرض
خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه لتأثيرها ، لكن تأثيرها ليس بأمر حتمي بحيث تكون علة فاعلة ،
ولكن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم ، وأن لا يورد
ممرض على مصح ،
من باب تجنب الأسباب ،
لا من باب تأثير الاسباب بنفسها قال الله تعالى : (
ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة )
(
سورة البقرة ،الاية 195)
ولا يقال :
إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى ، لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قل : (لاعدوى) . قال رجل : يا رسول الله أرأيت الابل تكون في الرمال مثل الظباء فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (فمن أعدى الأول ) ؟
الجواب : أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بقوله (
فمن أعدى الأول) إلى أن المرض
انتقل من المريضة إلى هذه
الصحيحات بتدبير الله عزوجل ، فالمرض نزل بدون عدوى،
بل نزل من عندالله عزوجل ، والشيء قد يكون
له سبب معلوم ، وقد
لا يكون له سبب معلوم ، وجرب الأول ليس معلوما إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم
ولو شاء الله تعالى ما جرب، ولهذا أحيانا تصاب الأبل بالجراب ثم يرتفع ولا تموت ،
وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية قد تدخل البيت فتصيب البعض ويموتون ، وسلم آخرون
ولا يصابون ،
فالانسان يعتمد على الله ويتوكل عليه .
وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليه رجل مجذوم فأخذ بيده وقال له : (
كل ) أي من الطعام الذي
كان يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم لقوة توكله صلى الله عليه وسلم فهذا اتوكل مقاوم لهذا السبب المعدي.
وهذا الجمع الذي ذكرنا أحسن ما قيل في الجمع بين الاحاديث ، وادعى بعضهم النسخ ، وهذه
الدعوى غير الصحيحة : لأن من
شرط النسخ تعذر الجمع ، وإذا أمكن الجمع
وجب : لأن فيه إعمال الدليلين وفي النسخ إبطال
أحدهما ،
وإعمالها أولى من أبطال أحدهما ؛ لأننا اعتبرناهما وجعلناهما
حجة.