عباد الله، صلة الرحم خُلُق دعا الإسلام إليه، أمر بصلة الأرحام، رغّب في ذلك، بيَّن الآثار المترتِّبة على الصلة في الدنيا والآخرة، حذَّر من قطيعة الرحم، وبيَّن العقوبة المترتبة على قاطع الرحم في الدنيا والآخرة.

أيها المسلم، ففي كتاب الله وسنة نبيه أمرٌ بصلة الرحم، وترغيب في ذلك، يقول الله جل وعلا: وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ [النساء:1]، أي: اتقوا الأرحامَ بصلتكم لها، وقال جل وعلا: وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21]، وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ الآية [البقرة:83].

أيها المسلم، صلة الرحم وأعني بالرحم أقاربَك من جهة أبيك وأمك، إخوانَك وأخواتِك، أعمامَك وعماتِك، أبناءَ أخيك وأبناءَ أخواتك، أبناءَ عمك، وأقاربَك من حيث الأب، أخوالَك وخالاتِك، أقرباءَ أمك، كلُّ أولئك رحم، أنت مدعوٌّ لصلة تلك الرحم.

صلتُك للرحم ـ يا أخي المسلم ـ تتمثل في أمور، فمن ذلك الإحسان إلى فقيرهم ومحتاجهم، والوقوف معه في شدائد الأمور، زيارتُك لرحمك، تحسُّسك لمشاكلهم، سؤالك عنهم، عنايتك بهم، اهتمامك بشأنهم، إظهار المحبة والشفقة والرحمة بهم، تلك أمورٌ رغَّب الشارع فيها، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

إنها صلةٌ تجعل صلتَك بأقاربك قويةً متينة، يشعرون منك بالرحمة والشفقة والعطف عليهم، فأغنياؤهم بزيارتك لهم، سؤالك عنهم، فقراؤهم بإحسانك إليهم، فرض زكاة مالك وصدقاتك ومعروفك إليهم. وأعظم من ذلك دعوتُهم إلى الخير، وإرشادهم إلى الهدى، والأخذ بأيديهم من الانزلاق في الرذائل الأخلاقية.

أيها المسلم، هذه الصلة للرحم من واجبات الإيمان، يقول : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه))[1]، فجعل صلةَ الرحم من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، فأكملُ الناس إيماناً من كان واصلاً لرحمه. وأخبرنا عن مكانة الرحم فقال: ((خلق الله الخلق، فلما فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك))[2]، وفي لفظ: ((إن الرحم قالت: يا رب، أنت الرحمن وأنا الرحم، قال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال فذلك لك))[3]. وتقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما: عن رسول الله قال: ((من وصل رحمه وصله الله، ومن قطع رحمه قطعه الله))[4].

أيها المسلم، إن صلةَ الرحم قد يحول [دونها] بعضُ العوائق، إما شحناء في النفوس أحياناً، واختلاف في وجهات النظر أحياناً، فتحمِل بعضَ الناس إلى الحقد على رحمه، وكراهية رحمه، واستثقاله لرحمه، وبعده عنه. وقد تكون المؤثرات أحياناً إما من قبل الزوجة، فتحمل زوجَها على البعد عن أرحامه وقطيعة رحمه، وتحسِّن له السوءَ، وتنقل كلَّ خطأ قاله الرحم أو فعله، لتبعد زوجَها عن رحمه، وتحول بينه وبين رحمه، فتقول: رحمُك وأقاربك قالوا: كذا، قالوا: كذا، فعلوا كذا، قالوا: كذا، لماذا؟ تريد أن تجعلها وسيلةً للحيلولة بين الإنسان وبين رحمه، ولكن المؤمن الذي يخاف الله ويتقيه يتغلَّب على تلك النزعات الشرِّيرة، ولا يُصغي إليها، ولا يقيم لها وزناً، ويتحمَّل كلَّ المشاق؛ لأن صلته لرحمه لا يريد بها جزاءً منهم، ولا ثناءً منهم، ولا كونَه فوقهم مرتبةً، ولا أن يتسلَّط عليهم بنفوذ الأمر والكلمة، كلُّ تلك لا تخطر بباله، إنما يريد من صلة رحمه قربةً يتقرَّب بها إلى الله، طاعةً يطيع الله بها، عملاً صالحاً يرجو من الله المثوبة عليه في الدنيا والآخرة، ولذا يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))[5]، ليس الواصل الذي يقول: رحمي زارني سأزوره، رحمي دعاني سأدعوه، رحمي أهدى إلي سأهدي إليه، رحمي... لا، ولكن [الأصل] أن هذه الأمور والمكافأة بجنس ما أعطي يكون مع الرحم وغيره، فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وعلى الإحسان إلى من أحسن، ولكن قضية الرحم تأخذ مسارا فوق هذا كلِّه، وهو أن الواصل يصل من قطعه ليدلَّ على أن تلك الصلة نابعة من إيمان صحيح، ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))، فإذا قطعت الرحم وأبعدت الرحم لم يرض بهذا، بل يصل من قطعه منهم، ويحسن إلى من أساء إليه منهم، ويتحمَّل كلَّ المشاقّ في سبيل إرضاء ربه جل وعلا.

جاء رجل للنبي فقال: يا رسول الله، إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، انظر ـ أخي ـ: أصلهم ويقطعونني، الشيطان حريص يقول: هذا القاطع لرحمك، ما بالك تصله؟! عامله كما تعامل غيرَه، هذا الذي أحسنتَ إليه وأساء إليك وجهل وسفه عليك، أعرضْ عنه وابتغ غيره، فقال له النبي : ((إن كنت كما قلتَ فكأنَّما تسفّهم الملّ ـ وهو الرماد المحترق ـ، ولا يزال معك من الله عليهم ظهير ما دمت على ذلك))[6]، أي: لا يزال معك عونٌ وتأييد من الله لك على فعلك الطيب، حيث قابلتَ القطيعة بالصلة، والإساءةَ بالإحسان، والجهلَ بالحلم.

أيها المسلم، وإن صلةَ الرحم تتمثل أيضاً في صرف الصدقات والزكوات إلى الرحم، وكون المسلم يبحث عن أقاربه: رحمُه هل فيهم مستحق للزكاة؟ هل فيهم مستحق للصدقة والإحسان؟ فهم أولى به من غيرهم، فهم أولى بإحسانك وبرك من غيرهم، وإن كان المطلوب الإحسان للجميع، لكن عند العجز فالرحم أولى بذلك.

أنزل الله قوله جل وعلا: لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]، أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه فهم من هذه الآية ما دلت عليه، وأن الله جل وعلا أخبرنا أنَّنا لا ننال البر حتى ننفق مما نحب لله جل وعلا، فأتى النبي قائلاً: يا رسول الله، إن الله يقول: لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وكان حائطا قربَ مسجد النبي ، يأتيه النبي ويشرب من ماءٍ طيب فيه، فقال له رسول الله : ((سمعتُ ما قلتَ، فأرى أن تضعها في الأقربين))، فقسمها في أقاربه رضي الله عنه وأرضاه[7].

أيها المسلم، وفوق هذا أن النبي رأى المعروف العام للرحم أولى من غيرهم، ميمونة أم المؤمنين زوج النبي عندها جارية وليدة تملكها، فأعتقتها ولم تخبر النبي إلا بعدما أعتقتها، قالت: يا رسول الله، أعتقتُ وليدتي، أما علمتَ أني أعتقتُ وليدتي؟! قال: ((لو أعطيتها لأخوالك كان أفضل))[8]، فانظر: العتق الذي ثوابه أن من أعتق مملوكاً له أعتق الله بكل جزء من أجزائه جزءاً من النار، النبي رأى أن صلةَ الرحم أفضل من العتق المترتِّب عليه الثواب العظيم.

أيها المسلم، ونبينا يجعل الصدقةَ على ذي الرحم جامعةً بين أمرين، بين صدقة وصلة، فعنه أنه قال: ((إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن فيه بركة، فإن لم يكن تمر فالماء فإنه طهور، وصدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة))[9] أي: تجمع إذا أعطيتَ الرحم الفقيرَ، أعطيتَه لكونه رحمَك ولكونه مسكيناً، فجمع لك بين أجر الصدقتين: أجر صلة الرحم وأجر الصدقة العام.

ونبينا يحثنا على صلة الرحم مبيناً لنا نوعاً من ثواب الله جل وعلا وجزائه للواصل في الدنيا والآخرة، فيقول : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسَأ له في أثره فليصل ذا رحمه))[10]، إذاً فصلة الرحم سبب لبركة الرزق، وسبب لبركة العمر، إما زيادةً فيه، أو بركة في لياليه وأيامه وتوفيقاً لعمل صالح.

أيها المسلم، وإن صلة الرحم ثوابُها عاجل في الدنيا والآخرة، يقول : ((ما من طاعة يعجَّل ثوابها مثل صلة الرحم، وإن القوم ليكونون فجاراً فيصلون أرحامهم فتثرُو أموالهم ويكثر عددهم بصلتهم، وما تواصل رحمٌ فاحتاجوا))[11] يعني: أن صلةَ الرحم بركة في المال، بركةٌ في الولد، وأن المتواصلين يغنيهم الله، ويمدّهم بتوفيقه، فلا يحتاجون إلى غيرهم؛ لأن هذه الصلة جلبت لهم البركةَ في الدنيا، وما عند الله خير وأبقى لأهل الإيمان المخلصين لله في أعمالهم.

أيها المسلم، إن في الصلة ـ لا شك ـ مشقةً وكلفة وتعباً، لكن المؤمن يتغلَّب على هذه كلها بتوفيقٍ من الله له، وأما أن يسترخي العبد، ويقول: الأمر متعب، من أتاني أكرمته، ومن بعد عني فلست مسؤولاً عنه، نقول: لا، هذا أمر مخالف للشرع، فالسنة للمسلم أن يبحث عن رحمه، أن يصل رحمَه الصلةَ الإيمانية التي يرجو بها ما عند الله من الثواب، صلةً يرجو بها ما عند الله من الثواب مع الصبر والتحمل لما عسى أن يلقاه، لكن كل شيء يهون على المؤمن إذا كان سعيه في سبيل الله، فيهون التعب والمشقة، ويتحمل كل الأذى؛ لأنه يرجو بما عمله ما عند الله من الثواب للواصلين، يرجو بما عمله ثوابَ الله للواصلين، والله جل وعلا لا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، فمن صدق اللهَ في تعامله فإن الله يوفّقه ويعينه، والله يقول: فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ [محمد:21].

فعلى المسلمين أن يتواصوا بصلة الرحم فيما بينهم، وأن يتقوا الله في ذلك، ويخلصوا لله في العمل، ويتعاونوا جميعا على البر والتقوى، أسأل الله أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل.

نقلتها لكم لما فيها من الفائدة من الشيخ :عبد العزيز آل الشيخ