(11) الخالق :
الخالق في اللغة اسم فاعل فعله خلق يخلق خلقا ، والخلق مصدر من الفعل خلق ومنه قوله : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ ) [السجدة:7] ، ويأتي الخَلق أيضا بمعنى المخلوق ، ومنه قوله تعالى : (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ) [لقمان:11] ، والخلق أصله التقدير المستقيم ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء وفي إيجاد الشيء من الشيء.
والخلق قد يأتي أيضا بمعنى الكذب على اعتبار أن الذي يكذب يؤلف وينشئ كلاما لا يطابق الحقيقة ، ومن ذلك قوله : (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكا ) [العنكبوت:17] ، وقوله : (إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ ) [الشعراء:137].
والخالق في أسماء الله هو الذي أوْجد جميعَ الأشياء بعد أن لم تكنْ مَوْجُودة وقدر أمورها في الأزل بعد أن كانت معدومة ، والخالق أيضا هو الذي ركب الأشياء تركيبا ورتبها بقدرته ترتيبا ، فمن الأدلة على معنى الإنشاء والإبداع وإيجاد الأشياء من العدم قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) [فاطر:3] ومن الأدلة على معنى التركيب والترتيب الذي يدل عليه اسمه الخالق قوله تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) [المؤمنون:14] ، وخلاصة ما ذكره العلماء في معنى الخالق أنه من التقدير وهو العلم السابق ، أو القدرة على الإيجاد والتصنيع والتكوين .
والحقيقة أن معنى الخالق قائم عليهما معا ، لأن حدوث المخلوقات مرتبط عند السلف بمراتب القدر ، فكل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه لا بد أن يمر بأربع مراتب ، وهي علم الله السابق وتقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، وهو علم التقدير وحساب المقادير ، ثم بعد ذلك مرتبة الكتابة وهي كتابة المعلومات وتدوينها بالقلم في كلمات ، فالله كتب ما يخص كل مخلوق في اللوح المحفوظ ؛ كتب فيه تفصيل خلقه وإيجاده وما يلزم لنشأته وإعداده ثم هدايته وإمداده وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، ثم بعد ذلك المرتبة الثالثة من مراتب القدر وهي مرتبة المشيئة فليس في الكون مشيئة عليا إلا مشيئة الله ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على ذلك ، ثم تأتي المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهي مرتبة خلق الأشياء وتكوينها وتصنيعها وتنفيذها وفق ما قدر لها بمشيئة الله في اللوح المحفوظ ، قال ابن القيم : ( مراتب القضاء والقدر التي من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر أربع مراتب : المرتبة الأولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها ، المرتبة الثانية كتابته لها قبل كونها ، المرتبة الثالثة مشيئته لها ، والرابعة خلقه لها ) ، فالله سبحانه خالق كل شيء تقديرا وقدرة ، ومراتب القدر هي المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلومة في علم الله إلى أن يصبح واقعا مخلوقا مشهودا.
(12) البارئ :
البارئ في اللغة اسم فاعل فعله برأ يبرأ برءا ، وبَرُء بضم الراء أي خلا من العيب أو التهمة والمذمة ، وخلص منها وتنزه عن وصفه بالنقص ، وأبرأ فلانا من حق له عليه أي خلصه منه ، وبرئ المريض أي شفي من مرضه ، وفي صحيح مسلم من حديث جَابِرٍ أنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل ) ، والبريء مرادف للبراء كما في قوله تعالى : (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا ) [النساء:112] ، وقوله : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ ) [الزخرف:26] ، ويقال : بريت القلم أي جعلته صالحا للكتابة , وبريت السهم أي جعلته مناسبا وصالحا للإصابة ، وقال الشاعر :
يا باري القوس بريا ليس يحكمه : لا تفسد القوس أعط القوس باريها
قال أبو إسحاق : ( البرء خلق على صفة ، فكل مبروء مخلوق ، وليس كل مخلوق مبروءا ، وذلك لأن البرء من تبرئة الشيء من الشيء من قولهم : برأت من المرض وبرئت من الدَّيْن أبرأ منه ، فبعض الخلق إذا فصل من بعض سمي فاعلة بارئا ).
والبارئ إذا كان تقدير فعله برء يَبْرَأ كفعل لازم فإن معناه السالم الخالي من النقائص والعيوب ، والبارئ سبحانه له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ، تنزه عن كل نقص وتقدس عن كل عيب ، لا شبيه له ولا مثيل ، ولا ند له ولا نظير ، أما إذا كان البارئ تقدير فعله أبرأ كفعل متعد لمفعول ، فالبارئ سبحانه يعني واهب الحياة للأحياء ، الذي خلق الأشياء صالحة ومناسبة للغاية التي أرادها ، وهو سبحانه الذي يُتِم الصنعة على وجه التدبير ، ويظهر المقدور وفق سابق التقدير ، قال تعالى : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) [الحديد:22] ( ) ، والبارئ أيضا هو الذي أبرأ الخلق ، وفصل كل جنس عن الآخر ، وصور كل مخلوق بما ينساب الغاية من خلقه ، قال أبو علي : ( هو المعنى الذي به انفصلت الصور بعضها من بعض ، فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو وصورة حمار مفارقة لصورة فرس فتبارك الله خالقا وبارئا ).
(13) المصور:
المصور في اللغة اسم فاعل للموصوف بالتصوير ، فعله صور وأصله صار يَصُور صوْرا ، وصور الشيء أي جعل له شكلا معلوما ، وصور الشيء قطعه وفصله وميزه عن غيره ، وتصويره جعله على شكل متصور وعلى وصف معين ، والصورة هي الشكل والهيئة أو الذات المتميزة بالصفات ، قال الراغب : ( الصورة ما ينتقش به الأعيان ويتميز بها غيرها ، وذلك ضربان : أحدهما محسوس يدركه الخاصة والعامة بل يدركه الإنسان وكثير من الحيوان بالمعاينة كصورة الإنسان والفرس والحمار ، والثاني معقول يدركه الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خُص بها شيء بشيء ). والمصور سبحانه هو الذي صور المخلوقات فيه بشتى أنواع الصور الجلية والخفية والحسية والعقلية ، فلا يتماثل جنسان أو يتساوى نوعان بل لا يتساوى فردان ، فلكل صورته وسيرته وما يخصه ويميزه عن غيره ، والصور متميزة بألوان وأشكال في ذاتها وصفاتها ، وإحصاؤها في نوع واحد ، أو حصرها في جنس واحد أمر يعجز العقل ويذهل الفكر ، فالمصور في أسماء الله الحسنى هو مبدع صور المخلوقات ومزينها بحكمته ، ومعطي كل مخلوق صورته على ما اقتضت مشيئته وحكمته ، وهو الذي صور الناس في الأرحام أطوارا ، ونوعهم أشكالا كما قال ربنا تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ منَ السَّاجِدِينَ)[الأعراف:11] ، والله عز وجل كما صور الأبدان فتعددت وتنوعت نوع في الأخلاق فتتعدد صور الأخلاق والطباع.
وأعظم تكريم للإنسان من الله المصور أنه خلقه على صورته في المعنى المجرد ليستخلفه في أرضه ويستأمنه في ملكه ، روى البخاري ومسلم من حديث أَبِي هريرة أنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( خَلَقَ الله آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ ؛ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ : فَقَالُوا : السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَة اللهِ فَزَادُوهُ وَرَحْمَة اللهِ ، فَكل مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ ).
والحديث ظاهر المعنى في أن الله صور آدم وجعل له سمعا وبصرا وعلما وحكما وخلافة وملكا وغير ذلك من الأوصاف المشتركة عند التجرد والتي يصح عند إطلاقها استخدامها في حق الخالق والمخلوق ، فالله عز وجل له صورة وآدم له صورة ولفظ الصورة عند التجرد لا يعني أبد التماثل ولا يكون علة للتشبيه إلا عند من فسدت فطرته من المشبهة والمعطلة ، أما الصورة عند الإضافة والتقييد فصورة الحق لا يعلم كيفيتها إلا هو ، لأننا ما رأيناه وما رأينا له مثيلا ، أما صورة آدم فمعلومة المعنى والكيفية ، وقد خلق الله آدم على صورته سبحانه في القدر المشترك مع ثبوت الفارق عند أهل التوحيد ، وقد قال ابن تيمية : ( ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر فارق فمن نفى القدر المشترك فقد عطل ، ومن نفى القدر الفارق فقد مثل ) ، والحديث عن ذلك له موضعه ، والقصد أن المصور سبحانه خص الإنسان بهيئة متميزة من خلالها يدرك بالبصر والبصيرة ، وأسجد له بعد تصويره الملائكة ، وليس بعد ذلك شرف أو فضيلة.
(14) الأول :
الأول في اللغة على وزن أفعل ، تأسيس فعله من همزة وواو ولام ، آل يؤول أوْلا وقد قيل من واوين ولام ، والأول أفصح وهو في اللغة صفة مشبهة للموصوف بالأولية وهو الذي يترتب عليه غيره ، والأولية أيضا الرجوع إلى أول الشيء ومبدؤه أو مصدره وأصله ، ويستعمل الأول للمتقدم بالزمان كقولك عبد الملك أولا ثم المنصور ، والمتقدم بالرياسة في الشيء وكون غيره محتذيا به نحو الأمير أولا ثم الوزير والمتقدم بالنظام الصناعي نحو أن يقال : الأساس أولا ثم البناء.
والأول سبحانه هو الذي لم يسبقه في الوجود شيء ، وهو الذي علا بذاته وشأنه فوق كل شيء ، وهو الذي لا يحتاج إلى غيره في شيء ، وهو المستغني بنفسه عن كل شيء ، فالأول اسم دل على وصف الأولية ، وأولية الله تقدمه على كل من سواه في الزمان ، فهي بمعنى القَبلية خلاف البعدية ، أو التقدم خلاف التأخر ، وهذه أولية زمانية ، ومن الأولية أيضا تقدمه سبحانه على غيره تقدما مطلقا في كل وصف كمال وهذا معنى الكمال في الذات والصفات في مقابل العجز والقصور لغيره من المخلوقات فلا يدانيه ولا يساويه أحد من خلقه لأنه سبحانه منفرد بذاته ووصفه وفعله ، فالأول هو المتصف بالأولية ، والأولية وصف لله وليست لأحد سواه ، وربما يستشكل البعض وصف الله بالأولية مع وصفه بدوام الخالقية والقدرة والفاعلية ، فإذا كان الله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء ، فهل يعني ذلك أنه كان معطلا عن الفعل ثم أصبح خالقا فاعلا قادرا بعد أن لم يكن ؟
والجواب عن ذلك أن يقال : إن الله عز وجل موصوف بأنه مريد فعال يفعل ما يشاء وقت ما يشاء كما قال : ( ذُو العَرْشِ المَجِيد ُفَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) [البروج:16] ، وقد بين الله عز وجل أنه قبل وجود السماوات والأرض لم يكن سوى العرش والماء كما جاء في قوله تعالى : (وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاء ) [هود:7] ، ومن حديث عِمْرَانَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَال : ( كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ، ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ ) ، وربما يسأل سائل ويقول : وماذا قبل العرش والماء ؟
والجواب : أن الله قد شاء أن يوقف علمنا عن بداية المخلوقات عند العرش والماء فقال تعالى : (ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ) [البقرة:255] ، فالله أعلم هل توجد مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ؟ لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن متعلق بمشيئة الله وقدرته ، فالله أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ، ويفعل ما يشاء وهو على ما يشاء قدير ، وأنه متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام أزلا وأبدا سواء كان ذلك قبل العرش والماء أو بعد وجودهما ، لكن الله أوقف علمنا عند هذا الحد ، كما أن جهلنا بذلك لا يؤثر فيما يخصنا أو يتعلق بحياتنا من معلومات ضرورية لتحقيق الكمال في حياة الإنسان ، قال سليمان التيمي رحمه الله : ( لو سئلت : أين الله ؟ لقلت : في السماء ، فإن قال السائل : أين كان عرشه قبل السماء ؟ لقلت : على الماء ، فإن قال : فأين كان عرشه قبل الماء ؟ لقلت : لا أعلم ) ، ويعقب الإمام البخاري رحمه الله بقوله : ( وذلك لقول الله تعالى : ( ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ ) [البقرة:255] يعني إلا بما بين ).
وهذه المسألة تسمى في باب العقيدة بالتسلسل وهو ترتيب وجود المخلوقات في متوالية مستمرة غير متناهية من الأزل والأبد ومعتقد السلف الصالح أن التسلسل في الأزل جائز ممكن ولا يلزم من ذلك أن الخلق يشارك الله في الأزلية والأولية.