الإنسان خلف سوق الأسهم
د. سالم القظيع - استشاري اقتصادي 15/02/1427هـ
ما إن تلقي "كارثة" بظلالها، حتى يبدأ تفاعل المجتمع معها بصور شتى تتفق وحجم تلك الكارثة. ومن أبرز أشكال هذا التفاعل، السرد القصصي للإنسان خلف تلك الكارثة. فمثلاً عندما غرقت العبارة المصرية، بدأت وسائل الإعلام في الإبحار في محيط من القصص الإنسانية التي تدور إما حول وصف اللحظات الأخيرة لحياة الركاب، أو أن تسترجع مع الأهل والأحباب لحظات ما قبل الوداع. وعلى إثر سقوط الطائرات، يبدأ الأحياء في سرد اللحظات التي سبقت الوداع الأخير في شكل دراما حقيقية تخالطها دموع الأحبة. لهذه القصص وقعها في القلوب لأن خلفها إنسانا (وهو مزيج من لحم ودم ومشاعر، تحكمها وتؤثر فيها الظروف المحيطة، سواءً اجتماعية أو اقتصادية)، إلا إذا تحجرت القلوب، وماتت المشاعر!
لمن ألف أسواق الأسهم وأحوالها، ربما لا يجد في تقلباتها (حتى الكارثية منها) شيئا جديدا. ولكن الكثير (وأعني الكثير!) من مواطني هذه البلاد لم يألفوا التعامل بالأسهم ومبادئ عملها، فكانوا يتخبطون في قرارات بيع وشراء ألقت بكثير منهم في مهالك الخسائر المالية "الكارثية". هل يلامون أم لا يلامون؟ سؤال محير! هل يلام المرء على جهله، أم يلام من جـهّله؟ هل لتدني مستوى التعليم دور في ذلك، حتى يطول اللوم وزارة التربية وهي حامل لواء العلم والوعي بأنواعه؟ أم هل هي "شماعة التروي" والتأخر في تنظيم السوق (حتى أن نظام السوق المالية لم يصدر إلا مع بزوغ الألفية الجديدة 2003)! بعيداً عن إلقاء التهم أود من خلال هذا المقال تسليط الضوء على شيء من الجوانب الإنسانية والاجتماعية خلف سوق الأسهم، والرد إجمالاً على من تكرم إلىّ بسرد معاناته مع هذه السوق سواء من خلال البريد الإلكتروني أو الرقم المخصص للمراسلة في هذه الجريدة.
وصلتني (كما وصلت غيري) نداءات استغاثة، قرأت من خلالها حالة البؤس التي يعيشها الكثير من الأسر السعودية جراء ما يعتري سوق الأسهم حتى لحظة كتابة هذا المقال (الإثنين 13 آذار (مارس) 2006م) فهذا أحدهم يتباكى بحرقة على تحويشة العمر قائلاً:"أنا مدرس وكل ما أملك هو 70 ألف ريال، اشتريت بها أسهما يوم السبت في (شركة كذا، وبالمناسبة هي إحدى الشركات القيادية!) والله بلاني يوم دخلت يوم السبت قبل ما يطيح السوق بيوم، والحين رأس المال وتحويشة العمر قاعدة تطير قدامي تكفا أفزع معنا). وآخر يقول:" توقعاتك لسهم (شركة ما) ألحقنا أرجوك يا دكتور سالم"، وآخر يشكو حال صناديق الاستثمار قائلاً: "الرجاء أن تفيدنا بخصوص صناديق الاستثمار، هي بعد قاعدة تخسر أكثر من السوق، ويش السواة الله يرحم والديك، نطلع منها وإلا نجلس فيها أنا خايف تستمر في خسايرها". وبائس يقول (وأحسبه متندراً): "سمعت أنك هامور، تقدر تفزع معنا، وخذ اللي تبي"! هذا غيض من فيض، وهناك ما هو أدهى وأمر. فقد تناقلت وسائل الإعلام أخبار وفاة بعض المتعاملين جراء صدمة الهبوط التي خسفت بأقواتهم على مرأى ومسمع منهم... فكان الله في عون زوجاتهم وأطفالهم! وآخر يقتل صديقه وشريكه في المحفظة الاستثمارية!
هل هذا هو الوجه القبيح للرأسمالية؟ أم أنه نتن إفرازات "قوى العرض والطلب"! أما أنها حالة أسى لفقدان عزيز (وهو المال)، من مبدأ الآية الكريمة "المال والبنون زينة الحياة الدنيا"، حين أصبح المال قرين الولد وفقدان أحدهما ربما يكون وقعه كوقع فقدان الآخر.
ختاماً، أقدم نصيحتي المتواضعة لهؤلاء ولمن رمى علىّ عبأ المشورة. أولاً، إعلم أخي/ أختي الكريمة أنك مثل الغريق وكل ما أنت بحاجة إليه هو أن تجتهد أولاً في إنقاذ نفسك بنفسك، ولا تنتظر (كما يوهمك البعض) أن ثمة سفينة للإنقاذ مقبلة. بمعنى، هناك للأسف من يزرع الوهم بأن هيئة السوق المالية ستتدخل في إخراج السوق من المأزق التي هي فيه، بينما كلنا رأينا وسمعنا من المتحدث الإعلامي للهيئة أن "النظام لا يخول الهيئة بالتدخل المباشر في السوق" وأن تدخل الهيئة لا يخرج عن إطار "الشفافية، والتوعية، وتطوير وتنمية السوق". وتذكر أنه ليس من العقل أن تتخذ قرار القفز في البحر اعتماداً على أن هناك من سينتشلك إذا غرقت! ثانياً: إن كانت خسارتك هي خسارة أرباح، فأعلم أن أرباح الأسهم لا تعد أرباحاً حتى تجنيها من خلال تصفية محفظتك الاستثمارية، ما عدا ذلك فهي لا تخرج عن كونها أرقاماً تزيد وتنقص كل يوم، فاحمد الله أنها كذلك واسع نحو تغيير استراتيجيتك في الاستثمار في الأسهم، وتوخ الحذر عند استثمار أموالك. ولمن خسر جزءًا من رأسماله أقول له تدارك الجزء الآخر وابحث عن فرصة جديدة في سوق الأسهم ربما من خلال الشركات القيادية فهي في المدى الطويل ستعوضك خسائرك إن شاء الله، فجميعها وهذه حقيقة تاريخية تمنح أسهماً وتوزع أرباحاً في كل عام. لهذا لا تجزع فأنت لم تخسر إلا في المدى القصير أما في المدى الطويل فأكاد أجزم بأن الربح منظور. وتذكروا إخواني أن هذه هي التجارة، والخسارة واردة فيها بغض النظر عن أسبابها. وربما عزاؤكم في درس تعلمتموه، وفي ترك التباكي أمر حميد يعينك على اتخاذ القرار الاستثماري السليم. وستسعدكم السوق خلال الأشهر والسنين المقبلة بشرط الحذر عند اتخاذ القرار السليم. ودمتم بخير.