تولى الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه الخلافة بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه الذي قتل صبرا في شيخوخته الواهنة وكان هذا نذيرا ببدء فتنة كبرى ، احتلبت بها الأمة دما وكان للفتنة أسبابها التي أذكتها سؤاء المآخذ التي أخذت على حكم عثمان أو ممن ارادوا الدس والوقيعة بين المسلمين فلبسوا ثياب الوعظ والإرشاد .
لم تجد هذه الفتنة من تلقي بكاهلها عليه سوى الإمام الذي اختارها الناس للخلافة فقال لهم (( قد اجبتكم لما أرى واعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم )) فكان الفدائي كعهده دائما ، وكان البطل لأنه يعلم أنه مستقبل أمراً له وجوه وله الوان لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول .
بويع الإمام كرم الله وجهه يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة وقد بين في اول خطبة له منهجه في الحكم المستمد من كتاب الله عز وجل حيث قال فيها :
(( إن الله عز وجل أنزل كتابا هاديا ، بين فيه الخير والشر فخذوا بالخير ودعوا الشر )).
الفرائض ادوها الى الله سبحانه يؤدكم الى الجنة ، ان الله حرم حرما غير مجهولة ، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها . وشد بالإخلاص والتوحيد المسلمين .
والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده الا بالحق ، لا يحل لمسلم اذى المسلم إلا بما يجب ، بادروا أمر العامة ، وخاصة احدكم الموت فإن الناس أمامكم وان من خلفكم الساعة تحدوكم ، تخففوا تلحقوا ، فإنما ينتظر الناس أخراهم ، أتقوا الله عباد الله في عباده وبلاده ، إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم وأطيعوا الله عز وجل ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشر فدعوه (( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض )) سورة الأنفال الآية 26.
فقد رسم في خطبته هذه استراتيجيته العامة التي ضحى من اجلها فكانت قولا وعملا عطرت سيرته الخالدة بشذى الإخلاص والتفاني.
كان هدف الفتن التي ورثها الإمام هو إحداث تصدع بنية الدولة الإسلامية الفتية . وتعطيل العمل بالحدود اشرعية ، وضرب الإسلام في مقتل، وتصفية حسابات قديمة ، فاتخذ أصحاب هذه الفتن في سبيل الوصول إلى هدفهم صورا عديدة وطرقا شتى ، سواء بالتملق والخداع أو بالتأليب والدس والإرهاب الفكري العقائدي ، مثلما فعل الخوارج ، فقد بدأت هذه الفتن سياسية وانتهت عقائدية .
وضع الإمام كرم الله وجهه أسس خلافته الجديدة بالاعتماد على اولئك الذين لهم قوة دينية التي لا قوة الا بها . وكأنه بدأ وضع اول لبنة صالحة في جبهته الداخلية . ثم أخذ ينتشر من بؤرتها الى ارجاء الأمصار.
فبدأ برد الأمور الى نصابها فقام بعزل ولاة عثمان لان دينه يمنعه من الإبقاء عليهم ، ولأنه طالما أنكر على هؤلاء العمال سيرتهم في الناس ، وارسل الولاة الجدد الى الأمصار فأرسل عثمان بن حنيف على البصرة وهو من الأنصار وارسل اخاه سهل بن حنيف على الشام ، وعمارة بن شهاب على الكوفة . وعبيدالله بن عباس على اليمن وقيس بن سعد على مصر .
أما والي الكوفة ابو موسى الأشعري فقد اختاره أهل الكوفة عاملا عليهم .
وأقر عثمان اختيارهم وحينما ذهب والي الإمام علي اليهم وهو عمارة . قال له القعقاع : ارجع فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلا وإن ابيت ضربت عنقك . فرجع عمارة وهو يقول : إحذ الخطر ما يماسك الشر ، خير من شر منه.
ويعتقد الدكتور طه حسين ان علياً لم يرسل الى الكوفة احد وانما ثبت أبا موسى لأنه كان رضى لأهل مصره ، وارسل أبو موسى الى علي بيعته وبيعة اهل الكوفة ، أما قيس بن سعد فدخل مصر وأخذ البيعة لعي من عامة اهلها خلا فرقة اعتزلت إلى (( خربتا )).
وانطلق عبيدالله بن عباس الى اليمن فلما بلغها رحل عنها عامل عثمان ، (( يعلى بن أمية )) وأخذ ما كان عنده من المال ولحق بمكه .
واما عثمان بن حنيف فدخل البصرة وافترق الناس بها فاتبعت فرقة القوم ، ودخلت فرقة الجماعة . وفرقة قالت : ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنع كما صنعوا ، أي أن العامل الجديد لم يجد من ا هلها كيدا.
وذهب سهل بن حنيف الى الشام حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل لمعاوية .
فقالوا : من أنت ؟ قال : أمير . قالوا : على أي شيء ؟ قال : على الشام. قالوا : إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك. وإن كان بعثك غيره فارجع . قال : أو سمعتم بالذي كان ؟ قالوا : بلى . فرجع إلى علي .
ورد القطائع التي وزعتها بطانة عثمان على المقربين وذوي الرحم.
فصرفتها عن وجوه الخير التي جعلت لها من إصلاح المرافق وإغاثة المفتقر إليها ووضعها في مصرفها الصحيح .
يقول الإمام رضي الله عنه : (( والله لو وجدته قد تزوج به ( اي المال ) النساء وملك به الإماء ، لرددته ، فإن في العدل سعة . ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه اضيق )) . وأمر الناس بإخراج الاعراب الثائرين فقال : (( يا أيها الناس اخرجوا عنكم الاعراب . وقال : يا معشر الاعراب الحقوا بمياهكم ، فأبت السبئية ، واطاعتهم الأعراب.
وكان عثمان رضي الله عنه قد جند هؤلاء الأعراب أثناء الفتوحات الاسلاميه ، وعندما توقفت هذه الفتوحات وجدوا انفسهم بدون عمل ، فكونوا طبقة من الرعاع الذين يسهل استغلالهم.
جنب الصحابة الطامعين في الإمارة فتنة الولاية ، مثلما فعل مع طلحة والزبير مخافة عليهم من غوايتها حيث طالباه بولاية العراق واليمن ، فقال لهما : (( بل تبقيان معي لآنس بكما فإني استوحش لفراقكما )).
الفتنــــــــــــة :
استولى القلق على الناس عن معرفتهم برجوع عامل الإمام علي إلى الشام ، وعرفوا أن معاوية له موقف مغاير عن جميع ولاة عثمان ، فأرسل اليه امير المؤمنين رضي الله عنه سبرة الجهني فلم يجبه معاوية بشيء وآثر التربص والكيد ، وأرسل إلى الأمام رجلا من بني عبس يحمل طومارا فما فضه علي لم يجد فيه شيئا ، فقال للرسول : ما وراءك ؟
قال آمن انا ؟ قال : نعم ، إن الرسل آمنة لا تقتل .
قال : ورائي أني تركت قوما لا يرضون إلا بالقود .
قال : ممن ؟ قال : من خيط نفسك ، وتركت ستين الف شيخ يبكي تحت قميص عثمان ، وهو منصوب لهم ، قد البسوه منبر دمشق.
فقال الإمام : مني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتورا كترة عثمان؟ اللهم إني ابرأ اليك من دم عثمان ، نجا والله قتلة عثمان إلا ان يشاء الله ، فأنه إذا اراد امرا اصابه ، ثم أخرج العبسي وليم يكن يفلت من الثائرين الساخطين على معاوية الا بعد جهد ومشقة .
أعلم الإمام علي كرم الله وجهه الصاحبة ما بما كان من امر معاوية ، وإن من الخير ان يميتوا فتنة الحرب قبل مولدها ، بأن يغزوا الشام قبل أن يغير عليهم معاوية ، ولكنه وجد كثيرا من الخذلان من بعضهم وايقن انهم لن ينصرون .
فقال الإمام : (( سنمسك هذا الأمر ما استمسك)) فجعل يتجهز بحرب الشام إلى ان جاءتها أخبار مقلقة من مكه ، بأن طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وارضاها قد ذهبوا الى البصرة للمطالبة بدم عثمان.
وسار معهم من الناس ثلارثة الاف واختاروا البصرة لكثرة المضرية فيها ، ولزعم عبدالله بن عامر عامل عثمان السابق على البصرة أن له بين اهلها صنائع ، فهم اجدر للسمع والطاعة ، وقد أمدهم عبدالله بن عامر ويعلي بن أمية بالمال والظهر والاداة .
ثم توالت الأيام والأحداث فكانت وقعة الجمل ثم وقعة صفين ثم التحكيم في دومة الجندل .
وما حصل فيها من خديعة ومكر ثم ظهور الخوارج الذين كفّروا الإمام كرم الله وجهه .
فلما نصحهم وعاتبهم على فعلهم ولم يثمر النصح والعتاب ، قاتلهم وفيهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( الخوارج كلاب النار )) يقول الذهبي : ولم يتهيأ في هذه السنين جهاد . ولا افتتح المسلمون شيئا ، بل اشتغلوا بالفتنة )) اي ان المد الاسلامي قد توقف او تجمد .
لقد عاش أمير المؤمنين على الحق واستشهد على الحق عاش حياته مجاهدا في سبيل الله لم تنكس له راية وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء ، نجح في كل امتحان وانتصر في كل غزوة ولم ينقض عهدا ولم يهتك سترا وهو يعلم أن انتصاره على العدو اشد فتنة من الهزيمة امامه ، لهذا نجده يقول : (( يا الله : يا الله : إن اظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي ))