بواسطة د.محمد إبراهيم السقا بتاريخ 4 مارس 2011

ترتب على الأزمة المالية الحالية تحقيق عديد من الدول الصناعية، بصفة خاصة الدول الأوروبية، عجزا ماليا غير مسبوق أدى إلى ارتفاع مستويات الديون السيادية في تلك الدول إلى مستويات حرجة.

وتحاول تلك الدول أن تجعل الدين العام فيها تحت السيطرة، غير أن استجابة الأسواق لهذه المحاولات ما زالت ضعيفة، وذلك في ظل التوقعات السائدة بارتفاع مخاطر التوقف عن السداد، بصفة خاصة في مجموعة الدول التي يطلق عليها اختصار PIIGS، والتي تشمل الحروف الأولى لكل من البرتغال وإيرلندا وإيطاليا واليونان وإسبانيا على التوالي.

بدأت أزمة الديون السيادية الأوروبية في نهاية 2009، عندما تم اكتشاف أن المخاطر المصاحبة للدين السيادي اليوناني هي أسوأ بكثير مما كان يعتقد، وهو ما أدى إلى إثارة الشكوك حول مدى قدرة عدد من أعضاء منطقة اليورو على إعادة سداد ديونها، وهو ما ساعد على زيادة تكلفة الاقتراض.

حتى هذه اللحظة قام الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بعمليات إنقاذ، من خلال توفير الأموال لكل من اليونان وإيرلندا، ولكن هذا لا يعني انتفاء مخاطر إعادة هيكلة ديون هذه الدول في المستقبل.

ربما تجرنا هذه المقدمة لسؤال مهم وهو كيف يمكن لدولة ما أن تخفف عبء الدين العام عليها.

من الناحية النظرية هناك على الأقل ثلاثة طرق لتخفيف عبء الدين هي:

1.التعديل المالي Fiscal adjustment، ويقصد بالتعديل المالي محاولة الدولة تعديل هيكل النفقات أو الإيرادات، بهدف تخفيض عجز الميزانية العامة للدولة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، بهدف ضمان استدامة الدين العام، من خلال التأكد من تحقيق فوائض في الميزانية العامة للدول الأوروبية التي يمكن أن تساعد هذه الدول على تثبيت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي أو على الأقل تخفيضها.

ووفقا للبرامج المعلنة من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي الأوروبي حاليا، فإن الدول الأوروبية كافة ملتزمة بتخفيض نسبة العجز إلى الناتج عند مستوى 3 في المائة بحلول عام 2012/2013، وهو أحد الشروط الأساسية لاتفاقية ماستريخت بإنشاء الاتحاد النقدي الأوروبي.

خلق التضخم، وذلك من خلال لجوء الدولة إلى التمويل التضخمي أي بزيادة عرض النقود التي تستخدم في خدمة الدين العام، وهو ما يمكن الدولة من التخلص من جانب من عبء الدين من خلال زيادة عرض النقود من ناحية، وتخفيف عبء الدين من خلال تخفيض قوته الشرائية في المستقبل من ناحية أخرى.

إعلان التوقف عن السداد، والذي يعني ضمنا الإعلان عن إفلاس الدولة، وذلك تمهيدا لإعادة هيكلة الدين السيادي لتلك الدولة، والتي تشمل عدة إجراءات منها شطب جزء من الدين، أو إعادة جدولة الدين السيادي للدولة على فترات زمنية أطول، أي من خلال إطالة أمد السداد، أو من خلال خفض معدلات الفائدة على تلك الديون.

والآن كيف يمكن للدول الأعضاء في منطقة اليورو اللجوء إلى هذه الإجراءات، أو مزيج منها، لكي تخفف من أعباء ديونها السيادية؟

بالنسبة للخيار الأول فإن التعديل المالي سيتطلب ضرورة اتخاذ هذه الدول لعدة إجراءات، ربما يكون بعضها غير ممكن حاليا في الدول الأوروبية، بصفة خاصة يتطلب التعديل المالي، زيادة الضرائب على الشركات وعلى الأشخاص، وخفض الإنفاق العام وذلك في إطار خطة للتقشف، ولكن من الواضح أن مثل هذه الخطط لها آثار انكماشية على مستويات الطلب الكلي، وتعقد الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول في ظل الأزمة، أو لجوء الدول المدينة إلى بيع بعض الأصول الحكومية في إطار عملية خصخصة، والتي ربما لا يكون وقتها مناسبا الآن، خصوصا بالنسبة لاعتبارات الحصول على القيمة الحقيقية لهذه الأصول التي يمكن أن تتأثر بفعل ضغوط الدين السيادي.

من ناحية أخرى، فإن واقع الحال على الأرض يشير إلى استحالة تحقيق المستهدفات المعلنة في منطقة اليورو والمتعلقة بخفض نسبة عجز الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي، في غضون هذه الفترة الزمنية القصيرة، دون أن تخاطر بعض الدول باستقرارها السياسي والاجتماعي.

على سبيل المثال عندما حاولت اليونان التعامل مع أزمة دينها السيادي من خلال التعديل المالي باتخاذ إجراءات تقشفية، كانت ردة فعل الجمهور لهذه الإجراءات عنيفة.

من ناحية أخرى، إذا ما دققنا مليا في هذه الإجراءات، سنكتشف أن الخيار الثاني غير متاح لكل الدول الأعضاء في منطقة اليورو، ذلك أنه وفقا لاتفاقية ماستريخت، لا يمكن لأي دولة من الدول الأعضاء في اليورو استخدام التمويل التضخمي كوسيلة لتمويل العجز أو لخدمة الدين، وذلك انطلاقا من الأهداف ذات الأولوية الأعلى للاتفاقية والتي تقضى بضرورة الحرص على استقرار الأسعار في كافة أنحاء منطقة اليورو، وهو من الأهداف الأساسية للبنك المركزي الأوروبي أيضا.

ومن ثم فإن هناك خيارا وحيدا أمام الدول الأوروبية الأعضاء في اليورو للجوء إلى مثل هذا الخيار وهو الخروج من اليورو، وهي مرة أخرى، مسألة محسومة بالنسبة للدول الأعضاء، وحتى لو افترضنا جدلا أن خيار الخروج من اليورو هو خيار مطروح لأي من هذه الدول فإنه لن يؤدي إلى حل المشكلة بل سيزيدها تعقيدا، حيث ستخسر الدول التي خرجت من اليورو ميزة حرية الوصول إلى التسهيلات المتاحة من المنطقة الأوروبية، وكذلك الحرمان من تسهيلات البنك المركزي الأوروبي للدول الأعضاء التي تواجه اضطرابا ماليا.

أما بالنسبة للخيار الثالث فمن الواضح أن الدول الأعضاء في اليورو لا يمكنها أن تلجأ إلى هذا الخيار بإعادة هيكلة ديونه السيادية، لأن لمثل هذا الخيار آثار خطيرة جدا على مستقبل اليورو، حيث إن عملية إعادة هيكلة الديون لمئات المليارات من الدولارات لمجموعة الدول الخمس ستؤدي إلى آثار هائلة في الأسواق، وحدوث اضطراب عظيم في النظام المصرفي الأوروبي.

فمن المعلوم أن البنوك الأوروبية هي أكثر المؤسسات المحتفظة بالسندات الأوروبية، ومن ثم فإن استقرار الصناعة المصرفية الأوروبية ستعتمد على طريقة التعامل مع الدين الأوروبي، أي أن أي عملية لإعادة هيكلة الدين الأوروبي ستحمل أخبارا سيئة جيدا للقطاع المصرفي الأوروبي، وقد تؤثر في الأسواق في جميع أنحاء العالم لفترة زمنية طويلة مقبلة.

من ناحية أخرى، فإن اللجوء إلى ذلك الخيار سيعني من الناحية العملية عدم قدرة أي دولة من الدول التي قامت بعملية إعادة الهيكلة على الوصول إلى الأسواق، بسبب امتناع الأسواق عن تقديم الأموال لدولة أعادت هيكلة دينها، ومن ثم سترتفع المخاطر المحيطة بهذه الدولة إلى أقصى مستوى ممكن.

في ظل هذه الظروف سترتفع التكاليف المستقبلية للاقتراض لهذه الدول، وربما قد تجبر هذه الدولة على أن تواجه شبه مقاطعة تجارية من الدول المقرضة، وذلك لأن المعاملات التجارية مع هذه الدولة ستتطلب تقديم تسهيلات مالية لصفقاتها التجارية، وهو ما ستحرص الدول الدائنة على ألا تقوم به للدولة التي أعلنت إفلاسها أو طلبت إعادة هيكلة دينها العام.

ماذا يعني التحليل السابق؟ إنه يعني أن الدول الأوروبية الأعضاء في اليورو لا يمكنها الإقدام على اتخاذ أي إجراء من الإجراءات الثلاثة السابق الإشارة إليها، طالما أنها متمسكة بعضويتها في الاتحاد النقدي، وبالتالي لا يبقى أمام هذه الدول من خيار سوى اللجوء إلى طلب المساعدة أو حث الاتحاد الأوروبي على تنفيذ برنامج للإنقاذ لهذه الدول.

محدودية الخيارات المتاحة أمام الدول الأعضاء في اليورو للتعامل مع ديونها السيادية رفعت من مستويات قلق الأسواق، على الرغم من الإعلان المستمر من جانب قادة الاتحاد الأوروبي بأن خطط التدخل للمساندة جاهزة للتعامل مع كل حالة على حدة، إلا أن الأسواق لا تستجيب لهذه التطمينات.

فعلى الرغم من خطط الإنقاذ التي تمت هندستها لكل من إيرلندا واليونان إلا أن الأسواق لها حسابات أخرى، وتقييم المخاطر لديها مختلف.

ففي الأيام الأخيرة أخذت المعدلات المطلوبة للعائد على السندات الأوروبية لمجموعة دول الـ PIIGS في التزايد على نحو واضح، مما يعكس تزايد المخاوف من احتمالات التوقف عن السداد.

ووفقا لأحدث البيانات المتاحة عن معدلات العائد على السندات الأوروبية استحقاق عشر سنوات، تصل تلك المعدلات إلى 11.86 في المائة لسندات الدين اليوناني، و9.15 في المائة لسندات الدين الإيرلندي، و7.41 في المائة لسندات الدين البرتغالي، و5.46 لسندات الدين الإسباني، وأخيرا 4.73 في المائة لسندات الدين الإيطالي، وذلك مقارنة بـ 3.24 في المائة للسندات الألمانية، وهي بكل المقاييس تعد معدلات تاريخية بالنسبة لهذه الدول.

لم يكن من المستغرب في ظل هذه التطورات أن يصدر التقرير ربع السنوي لمؤسسة CMA عن الربع الرابع من العام الماضي ليظهر تراجعا واضحا في ترتيب الديون الأوروبية، كما يوضح الجدول رقم (1).

ووفقا للجدول احتوت قائمة أكبر عشر دول في العالم خطورة من حيث دينها السيادي هذه المرة الدول الأربع الأعضاء في اليورو المعروفة باختصار PIGS، حيث جاء ترتيب اليونان في المركز الأول كصاحبة أكثر دين سيادي خطورة في العالم، وقد كانت تحتل المركز الثاني في التقرير السابق عن الربع الثالث من العام الماضي، أي بتراجع مركز واحد، يليها في المركز الثالث إيرلندا، وقد كانت تحتل المركز السادس عالميا في الربع الثالث من العام الماضي، أي بتراجع ثلاثة مراكز، وفي المركز الرابع البرتغال، وقد كانت تحتل المركز التاسع في الربع الثالث من العام الماضي، أي بتراجع خمسة مراكز، بينما حل الدين الإسباني المركز السابع كأخطر دين عالميا، ويعد دولة جديدة تحتل هذا التصنيف لأول مرة.

من الواضح أن أوضاع الديون السيادية الأوروبية تزداد سوءا، ويبدو أن الهدوء الحالي الذي تشهده الديون السيادية الأوروبية هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، قبل أن تنفجر أزمة الديون السيادية الأوروبية.

ولا شك لدي أن اشتعال أي أزمة للديون السيادية يمكن أن تكون تجربة مؤلمة جدا لكل من المقرضين والمقترضين، ذلك أن سوء إدارة الدين السيادي يمكن أن يؤدي إلى نتائج خطيرة جدا، حيث إن الترابط المؤسسي القائم حاليا بين هذه الدول يعني أن المخاطر التي تحيط بدولة ما تؤثر في باقي الدول الأعضاء في الاتحاد.

وأخيرا، فقد يكون من المناسب عرض ترتيب أفضل الديون السيادية في العالم، وخصوصا أن التقرير الأخير يشير إلى احتلال السعودية للمركز العاشر عالميا كصاحبة أفضل دين سيادي في العالم، كما هو موضح في الجدول رقم (2).

أهم الملاحظات على هذا الترتيب هو تحسن ترتيب الدين العام للولايات المتحدة بأربعة مراكز، حيث تقدم ترتيب الدين العام الأمريكي من المركز التاسع إلى المركز الخامس، على الرغم من كل ما ينشر عن الدين العام في الولايات المتحدة، وفيما عدا السعودية، تبادلت الدول التسع الأخرى ترتيبها في القائمة، بينما تظهر السعودية في قائمة الدول صاحبة أأمن دين عام في العالم لأول مرة