المحطة الجديد: إلى الماضي البعيد

الزمان:القرن الثالث عشر

المكان: مدينة بيرغن

الحدث: وأي حدث...من الظلم حصره في كلمتين أو ثلاث!

نحن الآن يا سادة نخترق حاجز الزمن ونعود إلى الوراء مئات السنين، حيث كانت القبائل الجرمانية تبسط أجنحتها عبر أوروبا...واللغة الإنجليزية لم تبلغ "الفطام" بعد!....لذلك كانت ألفاظها عصيّةً على الفهم...والسرّ أنها كانت في طور التحوّل والتحوّر من الجرمانية إلى الإنجلوساكسونيّة...لكننا بطبيعة الحال سنحاول أن نفهمها.

إنها بيرجن...ولم يكن اسمها يومئذٍ Bergen ...ولكن كان اسمها: bjorgvin ...يوم كانت –ولا تزال- محطةً تجاريّةً مهمة...ونقطة عبور للحبوب والملابس والتوابل...وإمداد سلالة الفايكنج بما يحتاجونه مقابل القدّ المجفف الذي يدفعونه من باب المقايضة.

إنه الشتاء القاسي...سنة 1349...عالم نسي كلمات الدفء والشمس والخضرة والربيع...كانت مجرّد كلماتٍ يحاول أن يستدفيء بها الفقراء...أو ذكريات يحلم بها العشّاق...ويمنّون أنفسهم بقرب موعدها...

ها نحن نقف أمام بيت خشبي متهالك قد أعمل الزمن فيه معاوله...واستوطنته "الأَرَضَة" لتنخر أصوله وتأكل باطنه...وبينما الزمهرير يعصف بالخارج ويعزف مقطوعته المرعبة...إذا بالداخل صورة تناقض ذلك...سنجد رجلاً يقف بالقرب من المدفأة التي استقرّ عليها طعامه.

نارٌ دافئة وحساءُ ساخن وملابس ثقيلة...هذه كانت أقصى أمانيّ الرجل في ذلك الصقيع الرهيب...لا...لم تصل الأمور إلى درجة التجمد الكامل للبحر الهائج الذي يحتضنه ميناء بيرجن..فقد كانت بعض السفن قادرةً على أن تشقّ طريقها بصعوبة...ومنها تلك السفينة القادمة من انجلترا..

تكوّم (جاك) –وهذا هو أقرب اسم يمكننا أن نطلقه على الرجل- بالقرب من النار...وبدا منظره مضحكاً بسالفيه الطويلين وشاربيه الكثّين وشعره المنسدل بين كتفيه...وحجمه الأسطوري...ذلك الحجم الذي يليق بسلالة الفايكنج..ويود الرجل لو يلتهم النار التهاماً لتدفء روحه وجسده..وطاف بخاطره الحديث عن قدوم تلك السفينة الانجليزية...حاملةً معها أعزّ أصدقائه وأقرب أحبابه: (ماجنوس)...توأم الروح ورفيق الصبا..لابد أن (ماجنوس) قد أُعجب كثيراً بإنجلترا...وإلا فلماذا تقاعس عن العودة إلى بلاده طيلة هذه المدة؟...بالتأكيد سيجد أعذاراً جاهزةً عن صعوبة العيش وضرورة الانتقال بين المدن والبحث عن الطرق التجارية...إلى آخر هذا الهراء الذي سينطق به..

بالتأكيد فإن ماجنوس في هذه اللحظات قد استقرّ في بيته...وفور أن تنتهي هذه العاصفة سيذهب (جاك) إلى زيارته...وسوف يشربون كثيراً...هكذا حدّث (جاك) نفسه وضحك في سرّه.

لقد وصلت السفينة حاملةً (ماجنوس)..ليس هذا فحسب...ولكنها حملت كذلك العديد من الجرذان الانجليزية التي تضاهي القطط في أحجامها...ولا ينقصها سوى سرجٌ ولجام لتظن أنها صالحة للركوب!

سفينة بالركاب...ماجنوس...وعدد كبير من الجرذان التي اعتلتها البراغيث الحمقاء إذ تحسب أنها فرسان الميدان!...وشيء آخر لم يتخيّله أحد...فقد كانت السفينة تحمل في طيّاتها قنبلةً موقوتة فجّرت تاريخ العصور الوسطى.

لنعد إلى (جاك) الذي يغالب النوم أمام المدفأة...إذ طرق طارق الباب.. وكاد من شدّة الطرق أن يكسر الباب.

-افتح الباب يا (جاك)...افتحه بسرعه.

قفز (جاك) إلى الباب وهو يتساءل عن الأحمق الذي قطع عليه خلوته...وفتح الباب ليجد رجلاً قد تدثّر بأسمالٍ بالية –الأسمال هي الثياب القديمة-...وقد راح ينفث البخار من منخريه وهو يلهث بعنف.

-من أنت أيها الغريب؟ (قالها جاك)

-أنا صديق (ماجنوس) ورفيقه في رحلته إلى انجلترا...ولقد حدث له شيء غريب... وهو الذي طلب مني أن أستدعيك لتراه...ولعلك لا تراه بعد هذه الليلة.

اندفع (جاك) إلى صديقه وهو يتساءل عن الذي حدث له..دخل غرفة (ماجنوس) فوجد رجلاً قد فتح صدره والعرق يتصبّب منه بغزارة...وقد احمرّت وجنتاه من شدّة الحمّى ( لا تنسوا أننا نتحدث عن الشعوب الاسكندنافية)....يا صديقي...ما الذي أصابك؟

-انظر إلى هذا الشيء في جسده.

نظر (جاك) فوجد خرّاجاً في خنّ الفخذ (أعلى الفخذ).
وهنا اتسعت عيون (جاك) هلعاً وقال: يا للشيطان...ثم تراجع خطوات إلى الوراء محاولاً غلق أنفه...وصارخاً بصديق (ماجنوس): ابتعد أيها الأحمق...إنه مصاب بالطاعون!

بالتأكيد إنه الطاعون...لقد قدّمتُ من التلميحات الكافية لتكتشفوا الحدث بأنفسكم...سفينة قديمة...فئران وجرذان...براغيث...الخلطة السريّة لصناعة أي طاعون محترم!

بالطبع لم يُمهل الموت (ماجنوس) كثيراً...ولم يملك (جاك)ترف البكاء على صديقه...ولم يَحْكِ لنا ما دار في الأيام القادمة في جوانب بيرجن وما حولها...لم يحك لنا (جاك) ذلك...لأنه –وببساطة- لحق بصديق عمره.

وبدأ الموت يُعمل منجله حاصداً الأرواح يمنةً ويسرة...وسرى الموت في الناس كالنار في الهشيم...هكذا كانوا يقولون في ذلك الوقت..مساكين إذ لم يُدركوا عصر (الكيروسين) ليروا سرعته الجنونية في التهام الأشياء.



وسرى النار في الهشيم...لا أعني المجاز هنا بل أعني الحقيقة...فقد سرت الحرائق في البيوت الخشبية بسهولةٍ تامة.

وأصبح لدينا ثلاثية الرعب في المدينة: دخان أسود...وطاعون قاتل...ونيران حمراء...أليست هذه عناصر الرعب الأبديّة التي لا يخلو منها مشهدُ مخيف..

واستمرّت المتتالية الحسابية لتعمل قاعدتها لتحصي تساقط الناس ومصارعهم...حتى قضت تلك المأساة على ثلثي الشعب النرويجي...فيما عُرف بالموت الأسود.

ذلك ما كان في السابق...فماذا عن اليوم؟؟؟ لندع الصور الحديث تتكلم عن نفسها وتبرز مفاتنها...

















والوعد بإذن الله بالتفصيل في الأيام المقبلة وصورٍ أكثر...فإلى لقاء قادم.
بقلم: طائر النورس