صفحة 7 من 7 الأولىالأولى ... 567
النتائج 61 إلى 66 من 66

الموضوع: $$رحلة النرويج...سبعين يوماُ$$

  1. #61
    عضو
    رقم العضوية
    37320
    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    المشاركات
    246
    المحطة الجديد: إلى الماضي البعيد

    الزمان:القرن الثالث عشر

    المكان: مدينة بيرغن

    الحدث: وأي حدث...من الظلم حصره في كلمتين أو ثلاث!

    نحن الآن يا سادة نخترق حاجز الزمن ونعود إلى الوراء مئات السنين، حيث كانت القبائل الجرمانية تبسط أجنحتها عبر أوروبا...واللغة الإنجليزية لم تبلغ "الفطام" بعد!....لذلك كانت ألفاظها عصيّةً على الفهم...والسرّ أنها كانت في طور التحوّل والتحوّر من الجرمانية إلى الإنجلوساكسونيّة...لكننا بطبيعة الحال سنحاول أن نفهمها.

    إنها بيرجن...ولم يكن اسمها يومئذٍ Bergen ...ولكن كان اسمها: bjorgvin ...يوم كانت –ولا تزال- محطةً تجاريّةً مهمة...ونقطة عبور للحبوب والملابس والتوابل...وإمداد سلالة الفايكنج بما يحتاجونه مقابل القدّ المجفف الذي يدفعونه من باب المقايضة.

    إنه الشتاء القاسي...سنة 1349...عالم نسي كلمات الدفء والشمس والخضرة والربيع...كانت مجرّد كلماتٍ يحاول أن يستدفيء بها الفقراء...أو ذكريات يحلم بها العشّاق...ويمنّون أنفسهم بقرب موعدها...

    ها نحن نقف أمام بيت خشبي متهالك قد أعمل الزمن فيه معاوله...واستوطنته "الأَرَضَة" لتنخر أصوله وتأكل باطنه...وبينما الزمهرير يعصف بالخارج ويعزف مقطوعته المرعبة...إذا بالداخل صورة تناقض ذلك...سنجد رجلاً يقف بالقرب من المدفأة التي استقرّ عليها طعامه.

    نارٌ دافئة وحساءُ ساخن وملابس ثقيلة...هذه كانت أقصى أمانيّ الرجل في ذلك الصقيع الرهيب...لا...لم تصل الأمور إلى درجة التجمد الكامل للبحر الهائج الذي يحتضنه ميناء بيرجن..فقد كانت بعض السفن قادرةً على أن تشقّ طريقها بصعوبة...ومنها تلك السفينة القادمة من انجلترا..

    تكوّم (جاك) –وهذا هو أقرب اسم يمكننا أن نطلقه على الرجل- بالقرب من النار...وبدا منظره مضحكاً بسالفيه الطويلين وشاربيه الكثّين وشعره المنسدل بين كتفيه...وحجمه الأسطوري...ذلك الحجم الذي يليق بسلالة الفايكنج..ويود الرجل لو يلتهم النار التهاماً لتدفء روحه وجسده..وطاف بخاطره الحديث عن قدوم تلك السفينة الانجليزية...حاملةً معها أعزّ أصدقائه وأقرب أحبابه: (ماجنوس)...توأم الروح ورفيق الصبا..لابد أن (ماجنوس) قد أُعجب كثيراً بإنجلترا...وإلا فلماذا تقاعس عن العودة إلى بلاده طيلة هذه المدة؟...بالتأكيد سيجد أعذاراً جاهزةً عن صعوبة العيش وضرورة الانتقال بين المدن والبحث عن الطرق التجارية...إلى آخر هذا الهراء الذي سينطق به..

    بالتأكيد فإن ماجنوس في هذه اللحظات قد استقرّ في بيته...وفور أن تنتهي هذه العاصفة سيذهب (جاك) إلى زيارته...وسوف يشربون كثيراً...هكذا حدّث (جاك) نفسه وضحك في سرّه.

    لقد وصلت السفينة حاملةً (ماجنوس)..ليس هذا فحسب...ولكنها حملت كذلك العديد من الجرذان الانجليزية التي تضاهي القطط في أحجامها...ولا ينقصها سوى سرجٌ ولجام لتظن أنها صالحة للركوب!

    سفينة بالركاب...ماجنوس...وعدد كبير من الجرذان التي اعتلتها البراغيث الحمقاء إذ تحسب أنها فرسان الميدان!...وشيء آخر لم يتخيّله أحد...فقد كانت السفينة تحمل في طيّاتها قنبلةً موقوتة فجّرت تاريخ العصور الوسطى.

    لنعد إلى (جاك) الذي يغالب النوم أمام المدفأة...إذ طرق طارق الباب.. وكاد من شدّة الطرق أن يكسر الباب.

    -افتح الباب يا (جاك)...افتحه بسرعه.

    قفز (جاك) إلى الباب وهو يتساءل عن الأحمق الذي قطع عليه خلوته...وفتح الباب ليجد رجلاً قد تدثّر بأسمالٍ بالية –الأسمال هي الثياب القديمة-...وقد راح ينفث البخار من منخريه وهو يلهث بعنف.

    -من أنت أيها الغريب؟ (قالها جاك)

    -أنا صديق (ماجنوس) ورفيقه في رحلته إلى انجلترا...ولقد حدث له شيء غريب... وهو الذي طلب مني أن أستدعيك لتراه...ولعلك لا تراه بعد هذه الليلة.

    اندفع (جاك) إلى صديقه وهو يتساءل عن الذي حدث له..دخل غرفة (ماجنوس) فوجد رجلاً قد فتح صدره والعرق يتصبّب منه بغزارة...وقد احمرّت وجنتاه من شدّة الحمّى ( لا تنسوا أننا نتحدث عن الشعوب الاسكندنافية)....يا صديقي...ما الذي أصابك؟

    -انظر إلى هذا الشيء في جسده.

    نظر (جاك) فوجد خرّاجاً في خنّ الفخذ (أعلى الفخذ).
    وهنا اتسعت عيون (جاك) هلعاً وقال: يا للشيطان...ثم تراجع خطوات إلى الوراء محاولاً غلق أنفه...وصارخاً بصديق (ماجنوس): ابتعد أيها الأحمق...إنه مصاب بالطاعون!

    بالتأكيد إنه الطاعون...لقد قدّمتُ من التلميحات الكافية لتكتشفوا الحدث بأنفسكم...سفينة قديمة...فئران وجرذان...براغيث...الخلطة السريّة لصناعة أي طاعون محترم!

    بالطبع لم يُمهل الموت (ماجنوس) كثيراً...ولم يملك (جاك)ترف البكاء على صديقه...ولم يَحْكِ لنا ما دار في الأيام القادمة في جوانب بيرجن وما حولها...لم يحك لنا (جاك) ذلك...لأنه –وببساطة- لحق بصديق عمره.

    وبدأ الموت يُعمل منجله حاصداً الأرواح يمنةً ويسرة...وسرى الموت في الناس كالنار في الهشيم...هكذا كانوا يقولون في ذلك الوقت..مساكين إذ لم يُدركوا عصر (الكيروسين) ليروا سرعته الجنونية في التهام الأشياء.



    وسرى النار في الهشيم...لا أعني المجاز هنا بل أعني الحقيقة...فقد سرت الحرائق في البيوت الخشبية بسهولةٍ تامة.

    وأصبح لدينا ثلاثية الرعب في المدينة: دخان أسود...وطاعون قاتل...ونيران حمراء...أليست هذه عناصر الرعب الأبديّة التي لا يخلو منها مشهدُ مخيف..

    واستمرّت المتتالية الحسابية لتعمل قاعدتها لتحصي تساقط الناس ومصارعهم...حتى قضت تلك المأساة على ثلثي الشعب النرويجي...فيما عُرف بالموت الأسود.

    ذلك ما كان في السابق...فماذا عن اليوم؟؟؟ لندع الصور الحديث تتكلم عن نفسها وتبرز مفاتنها...

















    والوعد بإذن الله بالتفصيل في الأيام المقبلة وصورٍ أكثر...فإلى لقاء قادم.
    بقلم: طائر النورس

  2. #62
    عضو مؤسس الصورة الرمزية كازانوفا
    رقم العضوية
    29307
    تاريخ التسجيل
    Nov 2009
    المشاركات
    21,956
    ما شالله ما اجملها
    ربي يحفظ ديار المسلمين من كل شر
    كلامٌ للشّيخ ابن عثيمين-رحمه الله ، قال:

    " إذا رأيتَ نفسكَ مُتكاسلاً عن الطّاعة ؛ فاحذر أن يكونَ الله قد كرهَ طاعتَك ، فانتبه لنفسك"!
    __________________

  3. #63
    عضو مؤسس الصورة الرمزية كازانوفا
    رقم العضوية
    29307
    تاريخ التسجيل
    Nov 2009
    المشاركات
    21,956
    هل الايام القادمه اتت ام بعدها ؟؟؟
    كلامٌ للشّيخ ابن عثيمين-رحمه الله ، قال:

    " إذا رأيتَ نفسكَ مُتكاسلاً عن الطّاعة ؛ فاحذر أن يكونَ الله قد كرهَ طاعتَك ، فانتبه لنفسك"!
    __________________

  4. #64
    عضو
    رقم العضوية
    47025
    تاريخ التسجيل
    Mar 2014
    المشاركات
    65
    ماشاءالله )))))))))))))))

  5. #65
    عضو
    رقم العضوية
    37320
    تاريخ التسجيل
    Apr 2011
    المشاركات
    246
    بعد انقطاعٍ طويل...وبعد تبعثر الصور والفيديوهات هنا وهناك....وتجميع شتاتها قدر المستطاع..استطعت تجميع بضعة قصاصات تصلح أن تطرح في المنتدى....وقد اخترت من بينها هذه القصاصة التي بين أيديكم.

    لننعش الذاكرة قليلاً.. رحلتي كانت كالآتي: أوسلو...بيرجن...فلكفيور...ثم العودة للخليج...ثم بيرجن مرّة أخرى...ثم فلكفيورد...ثم إلى المطار في أوسلو ومنها العودة...

    إن القصاصة التالية كانت في فلكفيور في مرّتها الأولى...أي أنها كانت في نهايات شهر ستّة...وقبل موسم الصيام بأيّام عديدة...وبعد فهم خلفيّة المشهد...لننطلق معاً على بركة الله:

    المحطّة التالية: إلى أعماق الغابة!!
    لنعد قليلاً في الذاكرة إلى الوراء، ولتعد عقارب الساعة عشرين عاماً (ستضطرّ تلك العقارب المسكينة أن تدور 175200 مرةً على الأقل عكس اتجهاها!!)، لا زلتُ أتذكّر الدعوة الرائعة التي وُجّهت إليّ أيام المدرسة لقضاء عدّة أيام في معسكرٍ كشفي...

    يومها أتذكّر كيف بلغت بنا الحماسة ذروتها، ناهيك عن المتعة التي تحصّلناها من هذا المجتمع الطلابي...بل لا أنسى كيف خطط لنا المشرفون رحلةً استكشافية على هيئة: "خريطة الكنز": اذهب في هذا الاتجاه مسافة 5000 خطوة وستصل إلى نقطة اللقاء، وعلامته صَخَبٌ شديد للطيور....هناك شجرة ستجد عندها الخريطة التالية، وهكذا بدأت رحلتنا ونحن محمّلين بمؤونة البيات خارج المعسكر...ثم انتقلنا إلى الخطوة التالية...ومن خريطة إلى أخرى كنا نسير والهتافات تملأ الحناجر...ثم لا ننسى مسألة "المخاطر" التي كانوا يضعونها لنا في طريق مغامرتنا: (حبلٌ ممدود في ظلمة الليل ينتظر من يتعثّر به ويسقط.. هجوم بالسيارات...إلخ)...ثم تأتي الخطوة الأهم: الوصول إلى الكنز...والذي كان رايةً أُمرنا بالاحتفاظ بها...وصندوق من التفاح التهمناه بشراسه!!...ولم ننم إلا قرب الفجر مع حراساتٍ ودوريات لحماية العلم من المحاولات الهجومية للاستيلاء عليه...وصلاة الفجر في زمهرير الليل...والوضوء بالماء شبه المجمّد..

    حقاً...إن الذكريات هي النار التي نستدفيء بها حينما تعصف رياح الحياة الباردة...وهي الشهد اللذيذ الذي يملأ الأفواه ليُنسيك مرارة الابتلاء في دار الممرّ....والبُلْغة التي يتبلّغ بها المسافر في رحلته الحتمية....وكل هذه المتعة التي تحدثتُ عنها والأثر الذي لم يمْحُهُ الزمن...والرحلة كانت في الصحراء...حيث لا ماء ولا وديان...ولا مسطحات خضراء...ولا جداول ولا شلالات...وإعداد بدائي وعدّة متواضعه...فكيف إذا كانت الرحلة مطوّرة في بيئةٍ تستحق هذه المغامرة؟؟

    نقلتُ خواطري إلى قريبي...فتحمّس للفكرة...والحماسة معدية كما تعلمون...وهكذا تجمّع سبعة شباب بعدّتهم وعتادهم يترقّبون رحلتهم الرهيبة...في قلب الغابة.

    ليتك نظرتَ إلينا ونحن في بداية الطريق...لرأيتَ منظراً سيذكّرك بقناة ناشيونال جيوجرافيك...سُتَرٌ خاصة بالمطر...كشّافات خاصة توضع على الرأس كالتي يستخدمها من يدخل الكهوف...مشاعل يدويّة توقد بالغاز وتذكّرك بسلسلة هاري بوتر (لم أشاهدها بالمناسبة.. ولكنّه التخمين)..خيمتان كاملتان...معلبات كثيرة ومتنوعة...أدوات الطبخ...وأشياء أخرى كثيرة...بل كثيرة جداً...جعلت نصيب الواحد منا ما بين 40-60 كيلوجراماً على ظهره.










    أتذكرون حين قلت لكم: قواعد السلامة المرورية النرويجية تمنع من وجود أكثر من شخص لكل مقعد؟ ...وبسيارة يُفترض أن تكون حمولتها 5 أشخاص ركبنا نحن السبعه!! لا تسل عن كومة اللحم البشري التي تكدّست في تلك السيارة كيفما اتفق...ولا تسل عن المخالفة المرورية التي كنا ننتظرها فيما لو أوقفنا شرطي نرويجي بسوالفه الكثّة....لكان نصيبنا إذن: استضافةٌ مجانية في "التخشيبه!!" حتى نتعلم عدم الاستهتار بأرواح الناس.

    لكنها روح المغامرة...سل عنها كل طالبٍ متّقدٍ بالحماس وهو يرة "نصره" في كسر القواعد وتسلّق أسوار المدرسة...على أن فعلتنا لم تكن تهوّراً محضاً...ولكن لعلمنا بخلوّ الشوارع...ولأجل الأسعار الفلكيّة للمواصلات.

    وهكذا تجدنا على سفح الجبل أسفَلَه...وقد وضعنا سيارتنا مبتعدين عن قارعة الطريق بضعة أمتار...وبدأنا بالتقدّم نحو أعماق الغابة:

    عملٌ ونشاط...تعاون ومحبّة...حياتنا ملؤها الآمال...
    أبطال في كل مكان....مغامرة تداعب الخيال...
    أتاحتها لنا بلا جدال...متعة الأسفار والتجوال..
    أبطال






    كان الطريق في دبايته ممهداً مستقيماً....والجو ساحر...يقترب من 15 درجة مئوية...مررنا بشلالٍ هادر...ثم بجدول ماء اضطررنا إلى اختراقه رغم برودة مائه....واستوقفتنا العديد من المناظر التي تسرّ الناظرين.





















    ثم بدأ الطريق يصعد إلى الأعلى رويداً رويداً....واختفت الضحكات لتحلّ محلّها أصوات اللهاث وأنفاس البخار...وهنا تذكّرت أولئك المتسلّقين جبال الهملايا وكليمنجاروا...كيف كانوا يملكون من اللياقة ما يتمكنون به من السير أياماً وليالي؟



    كثُرت محطّات التوقّف...وصيحات: ((انتظروا قليلاً)) ((لا أستطيع الاستمرار)) ((اتركوني أموت هنا!!))...وظللنا على هذه الحال ساعتين كاملتين...وشمس الغروب بدأت في المغيب...حتى فاجأنا منظر في قلب الغابة.

    وجدنا كوخاً ثقف وحيداً وسط الأشجار...وقريباً منه بناءٌ خشبي آخر صغير الحجم أشبهُ بالمخزن...كان باب الكوخ مغلقاً...أما باب المخزن فمفتوح...وجدنا داخل باب المخزن أكياساً كبيرةً مملوءة بالخشب المقطّع والجاهز للاستخدام...ولفت نظرنا وجود علبة خشبية عند باب البيت...فتحناها فإذا بداخلها دفترٌ وقلم....ما سرّ هذا الدفتر يا تُرى؟

    من لونه تكتشف أنه قديم نسبياً...وآثار الزمن باديةٌ على غلافه وأوراقه...تملّكنا الفضول من وجود هذا الدفتر فدفعنا ذلك إلى تقليب صفحاته....فإذا به دفتر ذكريات قديم يملأ فيه كلّ زائر للمنطقة وورقةً منه بانطباعه عن المنطقة ثم يذيّلها بتوقيعه وتاريخ إمضائه...فتحنا أوّل صفحة فإذا بها تحمل تاريخاً قديماً...عام 2000 م.

    ألسنا أحد زوّار هذا الكوخ؟ بلى...وهكذا كان لنا حضور بين ورقات دفتر الكريات...باعتبارنا أوّل عرب نزور هذه المنقطة...كتبنا فيها: نحن النمور ال....اقرأوا الباقي من الصورة...اقترح أحدنا أن نكتب كذلك بالانجليزية: islam is pease فاستحسنا فكرته...وكذلك فعلنا.



    لم يكن في الكوخ أحد...لكن اشتداد البرودة جعلتنا ننتبه إلى أمرٍ لم يكن في الحسبان...إن كمية الفحم التي بحوزتنا قد لا تكون كافية لحصولنا على الدفء المطلوب...والاحتياط واجب...فما العمل؟

    واتجهت أنظارنا إلى المخزون وأكياس الخشب...وتبادلنا النظرات الصامتة....لم ننجح أن نستنطق جالواب من نظراتنا...فقلت لهم بهدوء: لا أظنكم تفكّرون في أخذ الخشب دون إذن صاحبه، فهذا مخالف لأمانة المسلم....فقال أحدهم: لكنها الضرورة...فأجاب الثالث: والضرورة تقدّر بدقرها...وتفجّرت النقاشات واحتدمت بيننا...إلا واحداً ظلّ صامتاً يُراقب ما يدور....وانتبه الجميع إلى عدم مشاركته في حلبة النقاش...وسرعان ما ترامت إليه أنظارنا متسائلة...فقال ونعم ما قال: أقترح أن نأخذ أحد تلك الأكياس....ثم نضيف في دفتر الذكريات رسالةً إلى صاحب الكوخ نذكر فيه اضطرارنا إلى أخذ كيسٍ منها بسبب موجة البرد التي اشتدت علينا...وأننا وضعنا مبلغ 50 كرونة في الصندوق مقابل الكيس.

    وهكذا خرجنا من هذا الحوار بنتيجة معقولة...وانطلقت القافلة مرّة أخرى تستأنف المسير...تحيط بنا الأشجار من كل جانب...وبدأت أقدامنا تغوص في المياه الباردة...وانتقلنا إلى مسطّح أخضر ظهر لنا من تضاريسه أنه كان بحيرةً يوماً ما...والأعشاب من حولنا خضراء باهتة وكثيرٌ منها هشيمٌ أسود متفحّم...ولكن من شدّة البرد...



    وفجأة: غاصت قدم أحد أفراد القافلة في وسط تلك المنطقة العشبية حتى ركبته...فاستنجد بنا...فذهب إليه من يُنقذه...فسقط معه...وتتابع الأفراد الغائصين..وبقينا قلّةً نصوّر ونوثّق ونضحك....كان لابد من حلّ عملي...ذهبنا إلى مرتفع ووضعنا فيه أمتعتنا...وطلبنا من "الغائصين" أن يرموا لنا بأمتعتهم حتى تخف أوزانهم...وبدأنا نشدّهم وهم سلسلة بشريّة: هيلا هيلا...صلّي عالنبي.. هيلا هيلا...صلّي عالنبي..

    وأخرجناهم بهد جهدٍ جهيد...فلا تسل عن الطين الذي علق بأرجلهم...ولا الإنهاك الذي حاق بهم.

    وبدأ الظلام ينشر عباءته في الكون...وتفجّرت أبواب السماء بماء منهمر...ظلام وبرد...وكدّ وتعب...وأي لذّة للمغامرات إن لم يكن فيها نصبٌ ولا وصب؟؟

    ساعتان ونحن نلهث تحت المطر حتى وصلنا إلى النقطة المنشودة...وهي قمّة الجبل.

    بحثنا هنا وهناك عن مكان ننصب فيه خِيَمَنا...لكن الأرض كلّها مشبعة بالماء البارد...وهو الأمر الذي قد يتسبّب بالإصابة بالروماتيزم...استمرّ البحث حتى وجد بعضنا بقعةً فنشر فيها خيمته...واستمرّ تركيبه لها ساعة على الأقل...ووجد شطرُنا الآخر على أطراف حافة الجبل بقعةً أخرى شبه رمليّة فافترشنا خيمتنا...على أن نكون حذرين...وإلا كان مصير أحدنا السقوط من الهاوية.

    نقطةٌ ضعوها في الذهن أيها السادة: كانت الخيمة ذات حبال طويلة...ستة أو ثمانية يتم تثبيتها بالأوتاد على طول محيط الخيمة...هذه المعلومة سنستفيد منها لاحقاً في التقرير.

    أذّن المغرب فالعشاء...ولكن : كيف سنصلّي؟ بل كيف سنتوضّأ؟؟

    كيف نتوضّأ وزخّات المطر قد تحوّلت من غزيرةٍ إلى رذاذ خفيف لا يمكنك تجميعه إلا بعد ساعات؟؟ وكيف نصلّي والرذاذ مستمرّ في الهطول؟؟؟ والأرض باردةُ جداً ومبتلّة؟؟ أفتيتهم حينها بالصلاة داخل الخيمة جلوساً لقصر طول الخيمة...والوضوء تيمّماً....قد تستغرب من ذلك...لكنّي كنتُ أعلم بالواقع حينئذٍ ولم يكن يمكننا إيجاد الماء للوضوء.

    بالطبع بحثنا في محيط الخيمة عن تجمّع مائي محتمل...لكن لم نتكشف شيئاً من ذلك.

    ومع توغّلنا في منتصف الليل...لم نجد صعوبةً في الاستمتاع بالنوم...لم نجد منغّصاً سوى هذه الأصوات المريبة من حولنا!!

    -فلان...هل تسمع ما أسمع؟
    -نعم، وأنت يا علاّن...هل تسمع كذلك ما نسمع؟
    -لو لم تنطقا لظنّنت أنها هلاوس التعب...وبالطبع لا يمكن أن تكون هلوستنا جماعيّة!!

    كانت أصوات أنفاسٍ ولهاث قوي للغاية...لا يكاد يبتعد عن جدار الخيمة 6 سنتيمترات...وأين؟ في قلب غابة موحشة...ليس فيها من البشر أحدٌ غيرنا...

    بدأتُ بتحليل المعلومات بشكلٍ موضوعي وفي غاية الهدوء:

    أولاً: ليس مثل هذا اللهاث بصوتٍ بشري...لسنا حمقى حتى لا نميّز أصوات البشر من غيرهم.
    ثانياً: ليست النرويج من الدول التي تحتضن غاباتها الضواري من الحيوانات
    ثالثاً: لو سلّمنا جدلاً بأنه صوت حيوان...كان عليه أن يصطدم بالحبال الكثيرة التي تلف الخيمة من حولنا
    رابعاً: كان الصوت يدور حول الخيمة كلّها...والتي كانت إحدى جهاتها –كما ذكرتُ سابقاً- هاوية سحيقة...فكيف أمكنه التواجد في منطقة الهاوية؟
    خامساً: لم نجد أي ظلال على جدران الخيمة الرقيقة...لذلك المخلوق...وقد اقترب كثيراً إلى درجة سماع صوت أنفاسه!!!


    فماذا يمكننا أن نستنتج من هذا كلّه؟ أترك لكم وظيفة الاستنتاج.



    على الرغم من شعر جسدي الذي انتصب...وعلى الرغم من مشاعر الرعب التي كدّرت الجو...إلا أن هناك ما هو أقوى بكثير منه...إنه الإرهاق والتعب...ليكن ألف ماردٍ من حولنا....إن النوم الآن أهم عندي من أي شيء.

    وأشرقت الغابة بأنوار الشمس... خرجنا من الخيمة...تفحّصنا ما حولها علّنا نجد آثاراً مخلبية أو أظفاراً طويلة، فلم نجد من ذلك...وهو ما يعزّز النتيجة النتيجة التي توصّلنا إليها.

    وذهبنا نسأل أصدقاءنا ونخبرهم بمغامرتنا الرهيبة...فنفوا استماعهم لأي صوت...وبدأنا نتفقّد المكان فإذا بنا نجد الماء على بعد 500 متر منّا وإن كان قليلاً...إلا أنه كان كافياً للوضوء...وهنا تبرز مشكلة جديدة...إن الأحذية التي كنا نلبسها أخذية خاصّة ذات حبال وبها 1000 عقدة تحتاج إلى فكّها لخلع الحذاء...ناهيك عن درجة حرارة الماء التي لا تزيد عن 7 درجات...فهل يجوز لنا أن نتيمم عن الأحذية؟

    انطلق سؤالنا عبر تردّدات الجي اس ام...مخترقاً الغابة النرويجية...ولم يستغرق ثانية حتى وصل المملكة العربية السعودية يستفتي شيخاً...

    قال لنا: هل الأذى الذي سيصيبكم موتٌ مثلاً أو مرضُ عضال؟
    قلنا: لا
    قال لنا: هل المشقّة تقتصر على صعوبة خلع الحذاء؟
    قلنا: نعم:
    فقال: إذن لا أجد لكم رخصة!!

    وبعد الصلاة تكشّف لنا جمال المنظر من الأعلى....



    وقد نزل أحدنا "مفاخرة" إلى سفح الجبل حيث البحيرة ليشرب من الماء فقط...ويرجع....ما أعظم جنون الشباب!!















    فاجأنا صراخ يصدر من الخيمة الثانية...توجّهنا إليها مسرعين...فإذا بأحدهم يخرج من الخيمة قائلاً:
    -الله يهديك يا (فلان)...ما كل هذا الذي أحضرته في شنطتك؟ كريم للشعر! مرطب للجلد!! صندل !!! أعواد خشبية للأسنان!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

    أين تحسب أنك ذاهب؟...هل أنت ذاهب للتخييم أم إلى فندق خمس نجوم؟؟

    وتزداد الغرابة عندما رأيناه قد أحضر معه كتاب "الأذكياء!!" لابن الجوزي...ضحكنا كثيراً...وقلت مداعباً: أصلاً ما أتى بهذا الكتاب إلا لأنه قد رآكم على خلاف ذلك....فردّ أحدهم على البديهة: بل أتى به ليُجارينا (ليجاري ذكاءنا)....



    وحان وقت ال....(فطور...غداء...سمّه ما شئت)...وبدأت "شبّة النار" في أحضان الطبيعة للدجاج المشوي وشاي على كيف كيفك!!
























    وبعد أن امتلأت البطون...وعادت زخّات المطر من جديد...حضرنا اجتماعاً طارئاً في إحدى الخيمتين...تكوّمنا فيها كيفما اتفق...ثم بادرنا "زعيمنا" بحقيقة مروّعة...لقد نفذ رصيد الخشب عندنا...وانكفأت القدور...وزخّات المطر لا يبدو أنها ستتوقف...والماء قليل...والجسم عليل...والثوب بليل...وفقدنا الدليل....لا مقام لكم فارجعوا.



    حمدنا الله تعالى على هذه الرحلة القصيرة...واضطررنا أن نجمع شتاتنا ونحزم حقائبنا...ولا شك أننا أخف في العودة وأقل حملاً...وليس الهبوط كالصعود.

    ويوم أن وصلنا إلى سفح الجبل حيث السيّارة...قابلنا رجلاً في طريقه للصعود...فإذا به يسلّم علينا بحرارة...وهذا أمر مستغربٌ جداً إذا علمت التحفظ الشديد الذي اشتهر به أولاد الفايكنج!!

    وإذا عُرف السبب بطل العجب...تبين أنه صاحب ذلك الكوخ في أعماق الغابة...وأنه قد قرأ الرسالة التي أبلغناه فيها "باستيلائنا!!" على حطبه، وأن ذلك قد "أفزعه" فانطلق يبحث عنا في أرجاء الغابة طوال الليل دون جدوى.

    ولماذا أفزعه؟ كانت إجابته: إن المنطقة التي خيمتم فيها عبارة عن محمية لصيد الغزلان، وموسم صيدها قد بدأ...يعني بالعربي: open season!!...فخفت أن تصيبكم رصاصاتٌ طائشة.

    أجفلنا من هذه المعلومة...وأدركنا كيف كانت عناية الله يوم أن أنزل علينا قاصفاً من المطر لنضطرّ اضطراراً إلى مغادرة المكان...هل فهمتم الآن معنى قول ربنا: {ومن يدبر الأمر}؟؟

    ولكن...هل يفسّر وجود الغزلان ما أفزعنا بالأمس؟ لا زلت مؤمناً بنظريّتي...لا أعرف...قد أكون مخطئاً.

    وآخر ما سمعناه من الرجل وهو يودعنا من بعيد: انتبهوا في السيارة...فأنتم "صيد" سهل...للشرطة النرويجية!!

    بكبيورد: طائر النورس


  6. #66
    عضو
    رقم العضوية
    47280
    تاريخ التسجيل
    Apr 2014
    الدولة
    قطر
    المشاركات
    54
    الله يعطيك العافيه

    ما شاء الله صور جميله

صفحة 7 من 7 الأولىالأولى ... 567

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •