تقييم موجز لفترة حكم سمو الأمير الوالد
لعلها من أهم الفترات في تاريخ قطر وقد توازي-ان لم تفق-تأسيس قطر في عام 1868م حين وقعت مع بريطانيا أول وثيقة مباشرة تمثل قطر ككيان مستقل، فقد كان ذاك استقلالا جغرافيا وهذا استقلال سياسي.
لكن هذه الفترة رغم أهميتها لم تجد حتى الآن تقييما موضوعيا عادلا بعيدا عن الإفراط أو التفريط، فكثير مما كتب ينحصر في توجهين إما مفرط في المجاملة أو مفرط في العداء، وكلاهما لا يعتد به في أي تقييم موضوعي.
وقع في يدي مؤخرا كتابا صادرا من مركز الجزيرة للدراسات اسمه: السياسة الخارجية لدولة قطر (1995-2013) روافعها واستراتيجياتها، تأليف جمال عبدالله، فيه كثير من الموضوعية عن جانب من فترة حكم سمو الأمير الوالد، سأحاول في هذا المقال تلخيص أهم أفكاره ثم التعقيب عليها بإجمال سريع.
مهمة صعبة ان تلخص كتابا من 280 صفحة، في صفحة واحدة، ولكن نستعين بالله على ذلك:
"....تولى الشيخ حمد عام 1995 وسط تحديات إقليمية كبيرة، منها نفور دول الجوار، وحضور حادثة غزو العراق للكويت ، وينبغي تجنب تكرار نفس التجربة في صورة إيران بدل العراق وقطر بدل الكويت.
ووعيا منه بحجم وإمكانيات بلده في مقاومة هذه التحديات، لجأ الشيخ حمد الى استخدام لغة العصر في المقاومة وهي التحالفات من جانب، والقوة الناعمة من الجانب الآخر.
التحالفات كانت مع الدول العظمى أمريكا وفرنسا وبريطانيا في عدة مجالات، عسكرية واقتصادية وثقافية، أما القوة الناعمة فتمثلت في تبني سياسة انفتاح لتحقيق استراتيجية الصورة الذهنية(ماركة) عن قطر كبلد حريات وسلام ونقطة توازن إقليمي، تماما كما هو الحال لارتباط بعض الدول بصورة ذهنية(ماركة) معينة كسويسرا ببنوكها، وألمانيا بمكائنها، واليابان بألعابها التكنولوجية، وهكذا.
استراتيجية الصورة الذهنية لقطر كان لها ست رافعات اعتمدت عليها:
الأولى: رافعة الرياضة: عبر سمو الأمير الوالد مرة في أحد لقاءاته مع صحيفة فرنسية "أن اعتراف اللجنة الأولمبية الدولية أهم من اعتراف الأمم المتحدة"، لهذا احتضنت قطر كم هائل من الفعاليات الرياضية وأخرها تنظيم كأس العالم.
الثانية: رافعة اجتماعية اسياسية: تم تقديم المجتمع القطري كمجتمع عصري متسامح يقيم مركزا للأديان، ويستضيف مهرجانات حوارية وسينمائية، كما قادت فيه الشيخة موزا سلسة من الإصلاحات الاجتماعية قدمت قطر كصورة لنموذج عصري لدول المنطقة بحيث تحظى فيه المرأة بمكانة اجتماعية راقية فقادت المرأة السيارة وترشحت وانتخبت وتبوأت مراكز قيادية، ومنها حقائب وزارية.
الثالثة: رافعة الطاقة: فالغاز الطبيعي المسال هو "العصا السحرية" التي تميزت بها قطر في الألفية الثالثة.
الرابعة: رافعة التعليم: وهي من أهم الرافعات وتشرف عليها مؤسسة قطر للتربية و العلوم والتي مهمتها تأهيل نخب المستقبل وجذب خبراء وافدين والمحافظة عليهم من خلال توفير تعليم نموذجي لأطفالهم، وهذا على الأقل ما يبرزه فريق وكالة الإعلان الأمريكية (TWBA Worldwide) المكلف بالدعاية للمدينة التعليمية، وقد دخلت مؤسسة قطر بتسويق الصورة الذهنية (الماركة) لقطر من خلال دفع 165 مليون يورو لنادي برشلونه لوضع شعار المؤسسة على قمصانه، النادي الذي لم يحمل قط دعاية على قمصانه منذ انشائه عام 1899 م باستثناء دعاية اليونيسف التي حملها مجانا، مما جعل هذا أمرا استثنائيا.
الخامسة: رافعة الإعلام وتحديدا قناة الجزيرة التي وضعت قطر وبشكل حاسم في مكانة مرموقة في المشهد السياسي الدولي كما ساهمت للترويج للرافعات الأخرى.
السادسة: رافعة الدبلوماسية والتي تعتبر "ماركة صناعة قطرية" بحيث تبدو قطر اليوم كصانعة للسلام وفاعلة في نزع فتيل الأزمات الدولية كأزمة الممرضات البلغاريات في ليبيا، وأزمة دارفور وغيرها، الأمر الذي جعل قطر وسيطا دبلوماسيا دوليا لا غنى عنه خصوصا في أزمات العالم العربي والإسلامي.
ينظر العالم الغربي الى قطر اليوم على انها دولة مزدهرة منفتحة وصديقة، أما الشعوب العربية فتنظر اليها على انها الصوت الحر للعالم العربي بسبب استضافتها قناة الجزيرة، وتلك هي الصورة الذهنية التي أرادها سمو الأمير الوالد لقطر ونجح في تقديمها للعالم..." انتهى موجز ملخص مقتطفات الكتاب.
هذا كان على النطاق الخارجي وقد نجح الى حد كبير في مواجهة كثير من التحديات الإقليمية التي كانت ترفض الشيخ حمد بدائةً وترفض ان تستقل قطر بسياسات خاصة عن محيطها الإقليمي.
لكن على المستوى الوطني-الداخلي-كان البون شاسعا بين الصورة الذهنية الخارجية لقطر وحقيقة واقع إدارة الدولة. فقد أدى الاندفاع الشديد، في تحقيق تلك الصورة الذهنية، إلى وجود فجوات إدارية كبيرة في الدولة كانت لها كلفة عالية مادية ومعنوية على الوطن والمواطن، لا نستطيع في هذه العجالة تفنيد وتحليل كل هذه الفجوات لكن أوضح مظاهرها هو مطار حمد الدولي ومؤسسة حمد الطبية.
السبب الرئيس في ظهور هذه الفجوات هو احتكار القرار داخل السلطة مع تغييب مؤسسات المجتمع المدني التي تمكن المواطن رسميا من مراقبة مثل هذه الفعاليات.
يقول الكاتب "...على غرار باقي دول الخليج-حيث تحتفظ الأسرة الحاكمة لنفسها بجميع وسائل السلطة-فإن قطر واستثماراته ومصيره السياسي مرتبط أساسا بطموحات الزعيم الشيخ حمد بن خليفة ال ثاني......وكما عليه الحال في جميع الدول فإن التشاور مع أعضاء الحكومة والوزارات التابعة لهم تحكمه سعة نفوذهم، ومدى قربهم من الأمير بشكل عام ومع ذلك فالقرار السياسي قرارا جماعيا.... ومهما طغى الطابع الجماعي على السلطات، فإن القرارات السياسية تظل في الغالب تعبيرا عن إرادة شخصية يسهل تحديدها الى حد ما" انتهى.
التعليم في قطر هو أكبر المتأثرين من تلك الاستراتيجية، فقد أدى إعادة هيكليتيه ثم الإصرار على فرض العنصر النسائي في قيادته، دون النظر الى الكفائة، الى تراجعات كبيرة فيه كلفت البلد ثروة أغلى من النفط الا هو الجيل التعليمي.
كان يمكن تجنب كثيرا من سلبيات استراتيجية الصورة الذهنية لوكان للمواطن صوت رسمي في القرار من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وقد " تأخرت قطر عن الامتثال للديمقراطية التي بشرت بها، رغم اعتمادها دستورا جديدا للبلاد، تم الاستفتاء عليه في عام 2003، يحمي حرية التعبير والرأي، ويرسي مجلسا للشورى يتم انتخاب ثلثي أعضائه" الكاتب.
احتكار القرار والانتباه الشديد الى الخارج أدى مع مرور الزمن الى تشكل برزخ في صنع القرار فصل بين المواطن وبين السلطة وأصبحت قطر تبدو وكأنها رأسا بلا جسد، ولعل أحد مؤشرات هذا الانفصال هو توجه سمو الأمير الوالد وكذلك معالي رئيس الوزراء السابق بالخطاب الدائم للإعلام الغربي وليس للإعلام المحلي الذي يقرأه المواطن خصوصا فيما يتعلق بالشؤون الوطنية الداخلية ومنها الحدث الأهم للوطن وللمواطن، حدث التنحي.
فلو أننا أردنا تقييم فترة حكم سمو الأمير الوالد باختصار لقلنا ان هناك أسلوبا راقيا في مواجهة التحديات الإقليمية باستخدام التحالفات وتقديم قطر للخارج باستراتيجية صورة ذهنية جعلت قطر لا يستغنى عنها في أي نشاط إقليمي، لكن على المستوى الداخلي كان هناك تراجعا كبيرا في إدارة الدولة بسبب تمركز المسؤولية وإبعاد المواطن عن المشاركة في صنع حاضره ومستقبله، حتى أوشك المواطن ان يكون دخيلا على قطر.
فترة تولي سمو الأمير الوالد هي من أهم الفترات في تاريخ قطر منذ تأسيسها أن لم تكن هي الأهم، فلابد من تقييم موضوعي لهذه الفترة تعزيزا لنقاط القوة التي فيها وتجنبا لنقاط الضعف، لتنتقل قطر في عهد سمو الشيخ تميم الى خطوات أخرى متقدمة تتسم بالوعي والإدراك للوضع الخارجي والداخلي معا، وأيضا للمستقبل الذي بدت ملامحه في التشكل.
لحدان ين عيسى المهندي
wasm03@yahoo.com
Twitter:@Lahdane