السلام عليكم

مقالتان منقولتان

الأفكار عميقة ومن كمال العقل ورجاحته
ومن كمال الأخلاق

_____________________

أخذ الناس بالظاهر … فوائده أكبر من مضاره

الهاجس الذي يدفع كثيرين إلى سوء الظن وتخوين الآخرين “احتياطا” هو خوفهم من أن يفلت فاعلو الحرام من العقوبة. فنقول لهم:
من حكمة الله في التشريع أنْ أَمَر مع ذلك بأخذ الناس بظواهرهم، فحتى لو أفلت كثيرون من العقوبة في الدنيا نتيجة لذلك فإن فوائده على مستوى المجتمع أكبر بكثير.

هذه المفهوم مهم للغاية، وهو من دلالات قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن)) لماذا؟ ((إن بعض الظن إثم)). لاحظ أن الله تعالى أمر باجتناب الكثير من أجل البعض.

وعلى هذه المفهوم شواهد كثيرة منها:

أولا: الحديث الذي رواه مسلم: (نهى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أن يطرقَ الرجلُ أهلَه ليلًا. يتخوَّنَهم أو يلتمسُ عثراتهم) (مسلم).
العائد من سفر قد يخطر بباله أن يتأكد من عدم خيانة زوجته له، فلا يخبرها بموعد عودته ليباغتها ليلا ويتأكد هل خانته أم لا، أو يتأكد هل أدخلت إلى بيته من يكره من محارمها أو أهملت في العناية بأولادها، أي: يلتمس عثراتها.
هذا كله مع أنه لم يظهر له من زوجته ما يريب، لكنه يريد فعل ذلك “احتياطا”.

لا يجوز له أن يفعل ذلك! أليس من المحتمل -ولو بنسبة ضئيلة- أن زوجته تخونه؟ بلى، ومع ذلك فالحفاظ على شعور الزوجات وإظهار حسن الظن بهن والثقة في أخلاقهن يجب أن يشاع في المجتمع لترتفع سويتهن بالفعل ولو أدى ذلك إلى عدم انكشاف خيانة نسبة ضئيلة منهن. فمنافعه أكثر من مضاره.


ثانيا: في حديث البخاري عندما هم أسامة بن زيد بقتل المشرك المقاتل فقال المشرك: (لا إله إلا الله)، لكن أسامة قتله. فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال لأسامة: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟)) قال أسامة: (يا رسولَ اللهِ، إنما كان مُتَعَوِّذًا) يعني قالها حتى لا أقتله، لا عن قناعة بها. فلا زال النبي يكرر: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟)).

هذا الرجل كان مشركا يقاتل المسلمين. ويغلب على الظن بالفعل أنه قالها متعوذا، ولو لم يقتله أسامة فلعله يندس في المجتمع المسلم يفسد فيه. ومع هذا كله فَأَخْذُه ومن نطق الشهادة مثله على ظواهرهم أعظم نفعا للمجتمع المسلم وللبشرية. فكيف بأخيك المسلم الذي يصلي ويصوم سنوات طويلة؟!

الشاهد الثالث: كان المنافقون يتكلمون بسوء عن رسول الله وأصحابه ثم يخافون أن يبلغ ذلك النبي فيقول أحدهم: (إذا بلغه أتيناه فحلفنا له ما قلنا، فإنما هو أذن يقبل ما يسمعه). فأنزل الله تعالى:
((ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم))

أي إنما يُذَم من يقبل من الناس إذا كان قبوله يؤدي إلى إيقاع ظلم على من لا يستحقه بشهادة غيره عليه. أما النبي فقد ألزم نفسه بالخير، فيسمع عنكم ما يسوء فيتجاوز، وتأتونه تظهرون خيرا فيقبل منكم الظاهر، وإنما يفعل ذلك لأنه ((يؤمن بالله)) الذي أمره بهذا، لا عن تصديق لكم وإنما تصديقه واطمئنانه للمؤمنين فهو: ((يؤمن للمؤمنين))، ومنكم أيها المنافقون من سيؤمن بعد حين فيكون إمهال النبي له بذلك رحمة: ((ورحمة للذين آمنوا منكم)). والمصرون الذين ((يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم)).

أفلت هؤلاء المنافقون من العقوبة إذ أخذهم النبي صلى الله عليه وسلم بظواهرهم. فكيف بإخوانك المسلمين الذين لم يؤذوا النبي كما كان يفعل هؤلاء؟!

الشاهد الرابع: لاحظ النصاب الذي وضعه الإسلام لشهادةٍ تنقل المسلمين عن أصل ظاهرهم من العفة. فلو رأى ثلاثة أتقياء رجلا وامرأة يزنيان فيحرم عليهم نشر ذلك، إذ لا بد من أربعة. سيفلت الزانيان من العقوبة. لكن تحصين المجتمع من الافتراء على الطاهرين والطاهرات أعظم نفعا من عقوبة هذين الزانيين.

فنقول للذي يسيء الظن احتياطا: من ماذا أنت خائف؟ أن يفلت بعض من فعل محرما؟ نفع الأخذ بالظاهر وحسنِ الظن أكبر، بما يشيعه في المجتمع من راحة ومودة واطمئنان المسلمين لبعضهم، وبما يسده من أبواب نزغات الشياطين.


قد يقال: لكن زماننا زمان فساد كثر فيه الخبث. نعم، ولذلك فهذه التشريعات الإسلامية تأتي ضمن منظومة متكاملة تقلل هذا الخبث، ومع ذلك فلاحظ أن في الشواهد التي ذكرناها أخذا بظاهر منافقين ومن كان للتو كافرا محاربا.

والله تعالى أعلم.