حين ننظر حولنا إلى هذا العالم ونرى الكم الهائل في التعدد والاختلاف في شتى مناحي البشرية والحياة، ولو أمعنا النظر قليلا لرأينا أن هنالك حكمة من هذا الاختلاف الذي في نهايته يكون لنا صورة جمالية متناغمة أحيانا ومشوشة أحيانا أخرى.
لكن نأتي إلى بعض المجتمعات بما فيها المجتمعات العربية ونجد أنها تعاني حتى الآن من انعدام ثقافة الاختلاف وبروز عقلية الخلاف التي تلقي بظلالها ليس على الأفراد والمجتمعات فحسب بل أيضا الحكومات والأنظمة، لعل انعدام تلك الثقافة يعزو لحد كبير إلى ثقافة أخرى ترتهن بمجتمعاتنا وهي ثقافة "الوصاية".
ثقافة الوصاية وهي مضادة لثقافة المسؤولية والاستقلال الذاتي، باتت أحد السمات البارزة لمجتمعنا ودخلت في جميع جوانب الحياة السياسية، الاجتماعية، الدينية، الفكرية، هذه الثقافة أي الوصاية أصبحت وكأنها تلغي عقل الإنسان البالغ والعاقل لتجعل آخرين أفرادا كانوا أو جماعات أو حكومات أوصياء عليه، في محاولة لتقليل حجم الفرد في إدراك حياته وأيدلوجياته وقناعته وتوهمه بأن هنالك من يستطيع أن يرسم له "خريطة" ويضع له مسارا مثل نظام gps ليسلكه.
إن أردنا الرجوع إلى أصل ثقافة الوصاية، فهي ليست وليدة اللحظة وهي ليست سمة للمجتمعات العربية فقط، ولكن هنالك مجتمعات تخلت عن تلك الوصاية وأخرى مازالت تنتهجها. ولعل أوج ثقافة الوصاية برز مع الاستعمار الأجنبي للوطن العربي، فالمستعمر عندما أتى لم يأت محملا بأهداف ومطامع عسكرية وسلطوية فقط بل أتى أيضا ليفرض وصايته على شعب ينظر إليه بنظرة دونية، شعب لا يمكنه تحديد مصيره، وشعب غير قادر على اتخاذ قرارته. ومن هنا برزت تلك الثقافة، حتى بعد انجلاء الاستعمار القديم والحديث مازالت هنالك دول ترى أنها الوصي على دول العالم، وتلك الوصاية تتخذ مبدأ القطب الأوحد أي أنها تنفرد بأسلوبها الوصائي معللة ذلك بأن الدول ليست في موضع تقرير مصيرها وحق اختيارها.
ومن هنا فمع بروز ثقافة الوصاية نتج عنها انعدام ثقافة التعددية والاختلاف واستبدلت بالاستبدادية في الرأي والتفسير والمنطق وأصبحت منهجا للخلاف وصراعا للأفكار، الذي بدوره أفرز مجتمعات وحكومات متشنجة ترفض الآخر بل وفي أحيان أخرى تعتبره عدوا بسبب اختلافه، وأضحى المجتمع بأفراده في حالة تشنج غير قادر على مخالفة الأفكار ومقارعة الحجج واختلاف المنهجية، حيث ولّد هذا كله فيما بعد، التشنج والتعنت في الرأي ووصل إلى حد التطرف والإقصاء.
ولعل الشواهد في عالمنا العربي كثيرة، فما أكثر هؤلاء الذين تم زجهم في السجون بسبب اختلاف آرائهم وبسبب توجه أيدلوجياتهم، بالإضافة إلى استخدام الدول والحكومات أسلوب الوصاية بكل ما أوتيت به من سلطة ونفوذ في التحكم في حياة الأفراد وجعلهم تابعين أكثر من كونهم مستقلين، وتتحكم الدول في مصير أفرادها بحسب ما تراه من حدود للتعددية أو الاختلاف. أما على صعيد الأفراد فهنالك صراعات خفية وعلنية بين الأفراد في محاولة لإرساء مفهوم الوصاية، التي تبدأ من البيت وتنتهي إلى العلاقات العملية والاجتماعية، هذا الأمر أفرز مجتمعات خائفة يسودها التردد في التصريح بأفكارها والنمو بقدراتها خوفا من الدخول في صدام مع الآخر بسبب عدم تقبل هذا الآخر لثقافة الاختلاف، ووصل الأمر لحد تشبيه فكر التبعية وانعدام ثقافة الاختلاف إلى راعي أوحد وقطيع يمشون من خلفه، لدرجة أن هذا الراعي أصبح مقدسا من قبل البعض لا يجرؤ أحدهم على محاججته والاختلاف معه.
نحن في هذا الوقت في أمس الحاجة إلى التعددية واتساع الأفق الذي ضاق في وجه الكثير بسبب احتكار فئة قليلة للحقيقة أو ما يرونه بأنه كذلك، فالتعددية والاختلاف ليسا بالضرورة سيئين كما يتصور البعض، والآراء لا يمكن أن نحكم عليها بأنها خاطئة أو صائبة، فهنالك فرق بين الرأي والحقائق العلمية، وبين الثوابت والمتغيرات. لو نظرنا إلى القضايا التي تطرح في مختلف المجتمعات العربية لوجدنا أن البعض منها يعود إلى انعدام ثقافة الرأي والرأي الآخر واحتكار الحقيقة واختزال الواقع في أحداث أو أشخاص أو تجارب معينة، ومن هنا يبدأ الخلاف، ويكبر هذا الخلاف ليصل إلى الإقصاء والتجريم وغيره من صور رفض الآخر. لذا فإن السبيل لرقي المجتمعات ينبع من الأفراد أولاً، بإلغاء ثقافة الوصاية وترسيخ ثقافة التعدد والاختلاف لخلق مجتمع أكثر وعيا وقادرا على المساهمة بتنوعه واختلافه ليس للمجتمع الذي ينتمي إليه فحسب، بل وللعالم أجمع.
مقاله جميله نقلتها لكم للكاتبه ريم الحرمي
تستحق القراءه
اتمنى لكم قراءه ممتعه