السياق التشريعي لنزول حكم الجلباب وبيان علّة تشريعه:
الشيخ الحبيب بن طاهر
تحريم الزنا من بين ما سارع إليه الإسلام في بداية الدعوة في الفترة المكية , إلا أنه سكت عن أمرين لم يشرع لهما, فيما يتعلق بهذا الموضوع , إلا بعد الهجرة وفي أزمان مختلفة.
الأمر الأول: أنه سكت عن تشريع عقوبة الزنا فلم ينص عليها إلا حين نزول بداية سورة النور...
الأمر الثاني: سكوت الشرع في الفترة المكية عن البغاء, فلم يحرمه. فقد كان معدودا في الجاهلية من أصناف النكاح. والبغاء غير الزنا, فهو تعاطي المرأة الزنا علنا بالأجر, حرفة لها, فالبغاء هو الزنا بأجر , والزنا يقع سرا لا يطلع عليه أحد.
وسياق الآيات التاريخي يقتضي أن البغاء ظل غير محرم حتى حرم بنزول قوله تعالى من سورة النور: ( وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً...), وسبب نزول هذه الآية ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان لعبد الله بن أبي سلول جارية يقال لها "مسيكة", وأخرى يقال لها "أميمة"؛ فكان يكرههما على الزنا , فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء}.رواه مسلم
وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات.فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق. وكان إكراه الفتيات ـ أي الإماء ـ على البغاء من طرف أسيادهن أمر مستقر من عهد الجاهلية؛ وكان الأسياد يفعلون ذلك ليأخذوا الأجور التي تتقاضاها الإماء من ذلك, أو رغبة في أن يحملن من البغاء فيكثر عبيدهم , وقد يسعى من كان الحمل منه في فدائه بعد أن يولد؛ فعن الزهري أن رجلا أسر يوم بدر, وكان قد جعل عند عبد الله بن أبي سلول, وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة, فكان الأسير يريدها على نفسها, وكانت مسلمة فكانت تمتنع لأنها أسلمت, وكان ابن أبي سلول يكرهها على ذلك ويضربها, رجاء أن تحمل للقرشى فيطلب فداء ولده , فنزلت الآية.
ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى: {ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء} موجه إلى المسلمين والفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة.
فالحديث الصحيح الذي رواه جابر, مدعوما برواية الزهري وغيرها من الروايات, يدل على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين جميعا من الإماء والعبيد, ومن الرجال والنساء الأحرار المالكين أمر المسلمين.
ولا يعقل أن يكون البغاء محرّما قبل نزول هذه الآية, إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء, ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية, إذ لا سبيل للإقدام على محرّم بين المسلمين...
إن تحريم البغاء كان في حدود السنة الخامسة للهجرة بعد غزوة المريسيع, أي بعد نزول سورة الأحزاب بآية الجلباب. فآية تحريم البغاء موقعها في سورة النور بعد قصة الإفك بثلاثة عشر آية , وقصة الإفك قد وقعت بعد الحجاب الوارد فى سورة الأحزاب. والأصل في السورة أن تنزل آياتها متتابعة زمنيا, وترتب في المصحف على ذلك التتابع دون تقديم أو تأخير....
وفي هذا الظرف ـ أي ما قبل تحريم البغاء ـ نزلت آية الجلباب لتعالج مشكلة ذكرها الرواة في أسباب نزول آية الجلباب. فقد رووا أن الأمة والحرّة كانتا تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل, من غير امتياز بين الحرائر والإماء. وكان في المدينة فساق من المنافقين ويتعرضون للإماء, وربما تعرضوا للحرائر, فإذا قيل لهم في ذلك قالوا: حسبناهن إماء؛ فنزلت الآية تأمر الحرائر بمخالفة الإماء بلبس الجلابيب حتى يعرفن أنهن حرائر فلا يطمع فيهن أحد. وقد ذكر هذا السبب كبار التابعين كالحسن البصري وقتادة والسدي ومجاهد.... ولا يعقل أن يرمى التابعون أمثال من ذكرنا بالاختلاق. على أن لروايتهم أصلا وهو ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يدع في خلافته أمة تتقنع, ويقول: القناع للحرائر لئلا يؤذين. (أخرجه ابن أبي شيبه عن أبي قلابة رضي الله عنه).
....
جاء في القرآن الكريم ما يؤيد هذا المعنى...الآية الواردة قبل آية الجلباب, قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَـات ِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَـاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) الأحزاب 58 فعن الضحاك والسدي والكلبي أنها نزلت في زناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن, وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء, وربما يقع منهم التعرض للحرائر جهلا أو تجاهلا, لاتحاد الكل في اللباس.
...
وأما لماذا سكت الشرع عن البغاء فترة من الزمان, فلا شك أنه توجد أسباب لذلك, بعضها اجتماعي وبعضها اقتصادي. والذي يجب اعتقاده أن ذلك كان مصلحة للمسلمين اقتضت تأجيل تحريمه إلى حين....
وبهذا يتبين أن علة تشريع الجلباب هي تمييز الحرائر عن الإماء. وإن سكوت الشرع عن ما يفعله الفساق والمنافقون من مراودة الإماء ليس فيه مذمة له بأنه أطلق الفساد على أعراض إماء المسلمين, كما ادعى ذلك ابن حزم, وإنما هو تمشيا مع حكمة الله تعالى في التدرج بالتشريع نحو الكمال والتمام مراعاة لعادة العرب. وفي الشريعة الإسلامية نظائر عديدة لهذه المسألة, مثال ذلك شرب الخمر, فليس لأحد أن يقول إن قوله تعالى: (ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) تشجيع من الشرع على شرب الخمر خارج الصلاة , لأنها لم تحرمه إلا في أوقات معينة وسكتت عنه في بقية الأوقات, فلا يمكن قول ذلك, لأن الله تعالى تدرج بالناس إلى أن وصل بهم إلى ما يريده لهم من التشريع التام في الخمر, وذلك بتحريمه في كلّ الأوقات.
ومما يحسن الإشارة إليه أن تشريع الجلباب ليس المراد منه التستر, حتى يعد منع الأمة منه دعوة لها بكشف عورتها, وهو ما لا يتماشى مع الشريعة؛ لأن التستّر في أدنى صوره كان حاصلا بالخمار الذي كانت تلبسه الحرة والأمة على السواء. وإنما كان الجلباب زيا إضافيا للحرة. وإن كان تشريع الجلباب وقع قبل تشريع الخمار, إلا أن المرأة حرة كانت أو أمة, كانت على طريقة الجاهلية في وضعه, فجاء حكم الجلباب أولا ليميز الحرائر عن الإماء للعلة المذكورة, والخمار على طريقة الجاهلية في لبسه, ثم جاء حكم الخمار عند نهاية علة تشريع الجلباب ليؤكد على لبسه وعلى وضعه بطريقة جديدة تخالف ما كان عليه الأمر في الجاهلية. وبذلك يكون الخمار هو اللباس النهائي للمسلمة, حرة كانت أو أمة, مع ما أضاف إليه الشرع من ضوابط وشروط.
وبما تقدم يتقرر أن سبب طلب تمييز الحرّة عن الأمة أمر ظرفي انتهى بنزول حكم تحريم البغاء وإلحاقه بالزنا, وإنزال الحد بكل من يأتيه من النساء البغايا والرجال الطالبين له منهن, أحرارا وعبيدا, متزوجين وغير متزوجين. لذلك لم يعد الصحابة رضي الله عنهم ينهون الإماء عن لبس الجلابيب بعد أن كان عمر رضي الله عنه مدة خلافته يضرب الإماء على لبسهن الجلابيب , لعلمهم أن علة تشريع الجلباب قد زالت ولم يعد هناك ما يدعو الحرة إلى لباس يميزها عن الأمة.
وفي هذا العصر, فإن علة تشريع الجلباب قد زالت تماما بزوال نظام الرق, فلم يعد يوجد إماء. ومعلوم من قواعد الشرع أن الحكم الشرعي المعلل يدور مع علته وجودا وعدما. فإذا وجدت العلة وجد الحكم, وإذا انعدمت انعدم الحكم. ولا يمكن الادعاء بأن ذلك يؤدّي إلى تعطيل حكم قرآني؛ لأن النص على علة هذا الحكم في القرآن وروايات أسباب النزول المتعاضدة والمقوية لبعضها, لا تجعل مجالا للتردد في أن حكم الجلباب كان بسبب ظرفي. كما لا يمكن لأحد أن يقول فيما فعله عمر رضي الله عنه ـ مثلا ـ حين منع إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبهم من الزكاة, إنه عطل حكما قرآنيا. بل إنه رضي الله عنه فعل ذلك بناء على غياب علة تشريع هذا الحكم في عهده.
وبهذا تكون المسلمات غير مطالبات شرعا بالجلباب, وإن تحول بعد زوال حكمه إلى عادة؛ لأن اللباس الذي قررته سورة النور والأوصاف التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم للباس المرأة, والتي سنذكرها في خاتمة البحث, نهاية لكل راغبة في طاعة الله تعالى , ومحققة للمقصد الشرعي من أحكام اللباس. وعلى فرض استمرار حكم الآية فيحمل لبس الجلباب على أى لباس بما يتفق مع ما قررته آية النور, من أن المراد بالزينة الظاهرة الوجه والكفان.