النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: سأحدثكم اليوم عن قمر

  1. #1
    عضو
    رقم العضوية
    53489
    تاريخ التسجيل
    Jul 2018
    المشاركات
    1

    سأحدثكم اليوم عن قمر

    تطّلب عملي أن أسافر إلى سويسرا لمدّة شهر. فآكتريت شقّة مع مجموعة من الأصدقاء. عبد الرزّاق من المغرب, من مدينة طنجة, خفيف الظلّ, صاحب نكتة, طيّب و حادّ الذكاء. ثمّ كريم من الجزائر من مدينة تيزي وزّو, مدينة الجبال و الجمال, رجل حرّ و راق إلى أبعد الحدود, هاديء, وسيم, يحبّ الله و رسوله, صلّى الله عليه و سلّم, بشكل عجيب. لا أطيل عليكم, إستحضروا سيرة الصحابّي الجليل مصعب بن عمير, رضي الله عنه, إن أردتم تخيله. محمّد من تونس, من مدينة قليبيا الساحلية في الشمال الشرقي للبلاد, مدينة فلاحة و صيد بحري و أبوا محمد فلاحان. رجل عمّلي منظم, لا يترك ثانية من وقته تضيع دون أن يستغلّها إما في أمر دنوي أو في ذكر و حفظ لكتاب الله. صارم الهيئة, جواد, يغطي رقّة قلبه بصرامة سلوكه. و أخيرا العبد الفقير إلى رحمة الله, مخاطبكم.
    كان جيراننا في الشقة المقابلة لنا, عائلة من البوسنة, فُقِد ربّ العائلة في الحرب, وهاجرت الأم بطفليها فخر الدين و قمر إلى سويسرا لمّا إشتدّت الوطأة على المسلمين و بقيا فيها منذ ذلك الزمن.
    فخر الدين في الخامسة من العمر و محيطه البشري مكوّن من النساء فقط, أي أمّه و أخته قمر ذات التسع سنوات. لعبه و تصرّفاته كلّها مرتبطة بلعب و تصرّفات أخته قمر. يخرج مع قمر, يلعب بدمى قمر, و ليس له أحد يتكّلم معه من الصغار سوى قمر.
    إلتقيت فخر الدين لمّا عدت من عملي. وجدته أمام باب العمارة مع أخته يصعدون الدرج إلى الطابق الثالث.. أين نسكن نحن. حملت فخر الدين على ضراعيّ و أوصلته إلى شقتّه و في الأثناء مازحته قليلا:
    "ما شاء الله أنت رجل الآن كم تزن؟".
    قلتها بشكل تلقائي, كأيّ كلمات تقال للأطفال. أحسست أنّ كلمة "أنت رجل الآن" إستوقفته. فقد لمعت عيناه لدى سماعه لها.
    لمّا وضعته على الأرض أمام باب شقّته, سألني ببراءة:
    " تسكن جنبنا؟"
    أجبت: "نعم كما ترى, و يمكنك زيارتي متى شئت بعد ان تستأذن من والديك طبعا (كنت أجهل قصّة الأب)".
    ثمّ أضفت "أنت صديقي الآن".
    "حقًا!!؟"
    "نعم حقّا. هل تريد أن تكون صديقي؟"
    أجابني "نعم".
    قالها مسرورا و أخته قمر تراقب حوارنا صامتة وأمّه التي فتحت الباب و سمعت ما دار بيننا, سلّمت ثمّ أدخلتهما.
    جائنا فخر الدين و قمر في المساء. فرح بهما الأصدقاء فرحا شديدا. فقد أدفأا الجوّ في هذه البلاد الباردة طقسا و طباعا. و آندمج هوّ معنا إلى أبعد الحدود. أظنه أولّ مرّة يجد محيطا خاصا به من الرجال. فلم يعد يفارقنا.
    مرّت الأيام و أصبح فخر الدين و قمر لا يفارقان شقّتنا.
    أخذت أعلّم فخر الدين الملاكمة. تجاوب معي بشكل سريع, فتعلّم التغطية و توجيه اللكمات و تفاديها, و في بعض الأحيان تأخذه الشقاوة فيسدد لي ضربة بقدمه. فأمثّل الألم. "أي.. وجعتني يا فخر الدين, الضربة ليست قانونية, نضرب باليدين فقط".
    يجيبك "نسيت" و تفضحه إبتسامته الماكرة.
    تعلّق بي فخر الدين فلم يعد يفارقني, وكانت قمر عندما يتركها الأصدقاء بعض الوقت, تراقبنا في صمت و لم تكن توّجه لي الكلام إلّا النزر القليل. كانت تظن أنّي إستوليت على إهتمام أخيها الوحيد, الذي كانت تلعب معه.
    يوم الأحد, العطلة الأسبوعيّة, كنت جالسا في حديقة العمارة أطالع الجريدة و أترشّف قهوتي. أحسست بحضور. كانت قمر. جلست بجنبي.
    "السلام عليك قمر, كيف حالك؟"
    "و عليك السلام, الحمد لله"
    ثمّ بقيت تنظر إليّ بعيني من لديها ما تقول و لا تدري من أين تبدأ
    "فخر الدين يحّبك كثيرا"
    "ذلك شرف لي يا قمر, أنا أيضا أحبكما كثيرا"
    "تحبّنا نحن الإثنان؟"
    "نعم بالتأكيد"
    "لماذا؟"
    "أولا نحن إخوة من نفس الأمّة"
    "كيف ذلك؟ أنا لست أختك, أنا أخت فخر الدين"
    "أنت مسلمة, أليس كذلك؟"
    "نعم, قالت لي أمّي أننّا مسلمون"
    "أنا أيضا مسلم. اللّه, الذي خلقنا و أنعم علينا بالإسلام, قال لنا أنّ كلّ المسلمين أخوة. إذا أنا و أنت و فخر الدين و عبد الرزّاق و كريم و محمد إخوة في الإسلام."
    "كان فخر الدين يمضي كلّ وقته معي, و الآن كلّما رآكم يتركني و يأتي إليكم" أخيرا أخرجت الطفلة الملاك ما يشغل بالها.
    "يسعدني ذلك, و لكن أتدرين ماالذي يسعدني أكثر؟"
    "ماذا؟"
    "عندما تأتين أنت أيضا. أفرح كثيرا. خصوصا عندما يعلّمك كريم القرآن. هل أقول لك سرّا؟"
    "نعم"
    "أنت ترتّلين القرآن أحسن منّي, أتمنّى أن أرتّله مثلك."
    لمعت عيناها الكبيرتان دهشة و فرحا. وآزدادت بشرتها البيضاء نورا.
    "حسنا عليّ الذهاب الآن, يومك سعيد"
    "قمر, سنتمّشى بعد الظهر في الجبل, إن وافقت أمّك يمكنك المجيء أنت و فخر الدين معنا."
    "حقّا, حقّا !!! سأطلب من أمّي السماح لي بالذهاب. أخبر فخر الدين في الحال"
    ذهبت تجري.. و قبل الدخول إلى باب العمارة إلتفت إليّ وآبتسمت.
    كوني رجل رياضيات, بإمكاني إيجاد وحدات قياس لمعظم ما يمرّ بي في الدنيا. إبتسامة قمر تلك, لا تقاس. كيف تقاس سرعة لمحة عين, حاملة البراءة و الفرح من باب عمارة إلى قلبك؟ كيف يقاس وزن حبّ أطفال, كورد البساتين, علبّوه في إبتسامة ثمّ قدّموه إليك؟
    عند الغابة في الجبل, مشي فخر الدين بيننا. رجل بين الرجال. يسبقنا تارة و تارة يلتفّ حولنا ثمّ يمشي بجنبي. و قمر, ممسكة بيد كريم تحكي له عن كلّ ما يخطر ببالها, من زميلاتها في المدرسة, إلى شريط الصور المتحركة الذي شاهدته, إلى الكلمات التي تعلّمتها من عبد الرزّاق باللهجة المغربية,و إنّ خطر ببالها موضوع تضنّه مهمّ, تمسك بيديه و تمشي أمامه القهقري, ناظرة مباشرة إلى عينيه و مثّبتة نضراته معها كيّ يركزّ مع ما تقول. و كريم, الحليم دائما, يماريها و قد يسألها عن بعض التفاصيل.
    لاح فجأة نسر في الأفق, طائر مهيب, ما إن لمحه فخر الدين حتّى أمسك يدي بشدّة.
    "ما بك فخر الدين؟ لا تخف !! أنت رجل الآن"
    نظر إليّ و قد كبرت عيناه مندهشا كالذي إكتشف في نفسه أمرا لم يكن يعرفه
    "أضن أننّي لم أصبح رجلا بعد !!!"
    رأيت إبتسامات الشباب الخفيّة.
    حفظك الله يا طفل الإسلام ستكون إن شاء الله من الرجال العظام.
    بعد قليل رأى محمد مجموعة من البطّ حول بحيرة جبلية, و بخبرة إبن الفلّاح قال:
    "لا بدّ من وجود بيض بطّ هنا, اليوم أطبخ لكم عجّة لم تأكلوا مثلها قبلا" (العجّة أكلة تونسية من بيض و توابل و طماطم و الهريسة التونسية, وهي معجون فلفل أحمر حار. و التوانسة إذا أردت القضاء عليهم, إحرمهم من الهريسة شهرا واحدا. لا تغيب عن طعامهم).
    أضنّ أنّ قمر لم تنتبه لما يخططّ له محمد.
    و بخبرة عجيبة و في بضع دقائق حدّد محمد مكان بيضة, فأخذها فرحا كأشدّ ما يكون الفرح, فقد سئمنا الطبخ السويسري و لم نأكل بيضا طبيعيّا منذ مدّة. كلّه بيض مداجن.
    أشّع وجه محمد و عرض علينا البيضة بفخر.
    "ما هذا؟" صرخت قمر
    أجاب محمد مندهشا من ردّة فعلها: "بيضة !!!"
    "أعدها الآن"
    كانت تصرخ بهستيريا و قد تحّولت بشرتها البيضاء إلى لوحة عجيبة من الألوان. حمرة الوجنتين الغاضبتين و الشرايين الخضراء البارزة على جبينها الأبيض, المحاط بخصلات شعرها الأسود. ملاك هذه الطفلة حتّى وهي غاضبة.
    أمسكها كريم برفق و قال بصوت رصين محاولا تهدئتها:
    "طيّب, طيّب يا قمر, ما الأمر؟ ما بك؟"
    "أمّها"
    "ما بها يا قمر؟"
    " ستحزن إن لم تجد بيضتها, نحن أخذنا إبنتها"
    سبحان الله.. ما هذه البراءة .. هذا النقاء ! هل هوّ ما عاشته من أهوال الحرب و وحشيّة الصرب الجبناء و فقدان الوالد, ما جعلها تقيّم الأمور بهذه الحساسية, و يتعصّر قلبها لمجردّ فكرة فقدان أمّ لإبنها. حتّى و لو كانت الأمّ بطّة.
    أجابها محمد المتمسك بكنزه و مشروع عشائه, محاولا إقناعها, و متوسلا بعض الشيء:
    " حبيبتي قمر, شغل أمّ البطّ, أن تعطينا بيضا لنأكله. ستفرح الأمّ إن أخذنا البيضة"
    صرخت بصوت أعلى من السابق: " أعدها الآن".
    واضح أنّها لم تقتنع.
    حاول محمد تكتيكا آخر:
    " طيّب يا قمر, إن كنت خائفة على البطّة. أمسك بالبطّة الأمّ و نطبخها مع البيضة و هكذا لن يحزن أحدهما على الآخر".
    بهتت للحظة.. كأنّها تريد أن تستوعب هذا المنطق !!!
    الحقيقة, أننّا نظرنا كلّنّا إلى محمد, نريد أن نستوعب المنطق !!
    مُؤكد أنّه كان يريد الحفاظ على بيضته بأيّ ثمن.
    لم تهدأ قمر إلّا بعد أن أعاد محمد البيضة إلى مكانها.
    كان محمّد يحدّق فيها بطرف عينيه طوال طريق العودة. لم يترك شيئا أمامه من غصن أو حجر إلا ركله برجله, فإن لم يجد يركل الهواء. غاضب لضياع عشائه, عاجز أن يفعل أيّ شيء لهذا الملاك الطاهر قمر.
    حملها عبد الرزّاق على كتفيه. أعجبت الفكرة فخر الدين. فعلمت أنّه عليّ أن أعدّ كتفاي.
    أرسلت إلينا أمّ قمر عشاءا أحضرته لنا خصيصا.
    كان ذلك من كرمها و كان لذيذا فنسي محمد صورة البيضة العالقة في مخّيلته.
    مرّت الأيام سريعا و عدت من سويسرا. غابت عنّي قمر و أخبار الشباب.
    حفظهم الله

  2. #2
    تميم المجد الصورة الرمزية sara jsm
    رقم العضوية
    30853
    تاريخ التسجيل
    Feb 2010
    الدولة
    في الماضي الجميل :)
    المشاركات
    23,923
    ماشاءالله قصة جميله واندمجت وتخيلت الشخصيات وانا اقرأها ..
    مشاركة رائعة منك اخوي التونسي ..
    واهلا وسهلا فيك بين اخوانك واخواتك ..
    يعيشك
    تُنسى ، كأنَّكَ لم تَكُنْ ..

  3. #3
    تميم المجد الصورة الرمزية سالم الزهران
    رقم العضوية
    49581
    تاريخ التسجيل
    Mar 2016
    الدولة
    نيس نيبورهود
    المشاركات
    13,860
    سيدي خويا التونسي.. مرحبا فيك
    نورتنا

  4. #4
    عضو مؤسس الصورة الرمزية qatarman8008
    رقم العضوية
    26161
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    المشاركات
    8,976
    موضوع جميل..
    يعيشك..

  5. #5
    تميم المجد الصورة الرمزية لبيبة
    رقم العضوية
    44794
    تاريخ التسجيل
    Mar 2013
    المشاركات
    3,176
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

    أستطيع أن أقول أن هذه أجمل أول مشاركة أقرؤها منذ زمن هنا.

    شكرًا لك ومرحبا بك معنا.

  6. #6
    تميم المجد الصورة الرمزية بو شهاب
    رقم العضوية
    424
    تاريخ التسجيل
    Feb 2005
    الدولة
    قطر
    المشاركات
    737
    قصة جميلة و الاجمل الاسلوب المشوق في الوصف و سرد الاحداث.
    "و من يتق الله يجعل له مخرجاً و يرزقه من حيث لا يحتسب"

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •