بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فإذا حكمتُم فاعدِلوا، وإذا تعاملتُم فأحسِنوا
فكلُّ امرئٍ موقوفٌ على ما اقترفَه وجناه (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاه)
قال تعالى(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَاد)آل عمران،
كلمةٌ عظيمةٌ تتضمَّن معاني واسعة تدور حول صلاح الإنسان وفلاحه في معاشه ومعاده، ونفسه وأهله ومُجتمعه،
كلمةٌ تدخلُ في الدين والعبادة، والقول والعمل، والخُلُق والمظهر والسلوك،
كلمةٌ عظيمةٌ لها مدارُها في التعامُل والتعايُش، ولها آثارُها في رأبِ الصدع، وتضميد الجراح، وغسلِ الأسَى، وزرعِ التصافِي، والدفع إلى التسامِي في مكارم الأخلاق،
كلمةٌ إليها ترجع أُصولُ الآداب وفروعُها، وحُسنُ المُعاشرة وطرائِقُها،
فقد سأل جبريل،عليه السلام،النبيَّ ،صلى الله عليه وسلم،حين قال له،أخبِرني عن الإحسان،قال،الإحسان(أن تعبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)رواه مسلم،
الإحسان، مُشتق من الحُسن، وهو نهايةُ الإخلاص، والإخلاصُ على أكمل وجوهه من الإتقان والإحكام والجمال في الظاهر والباطن،
والإحسانُ في العبادة، أن تعبُد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراكَ) أي، فتكون قائمًا وظائف العبودية مع شهوده إياك،
إنه مُراقبةُ العبد ربَّه في جميع تصرُّفاته القولية والعملية والقلبية،
علمُ القلب بقُرب الربِّ، فهو من أعلى مقامات التعامُل مع الله،
الإحسانُ مطلوبٌ في شأن المُكلَّف كلِّه،في إسلامه، وإيمانه، وفي عباداته، ومُعاملاته، وفي نفسه، ومع غيره، وفي بدنه، وفي ماله، وفي جاهِه، وفي علمِه وعمله،
وأولُ مقامات الإحسان، الإحسانُ في حقِّ الله - عز وجل،
وهو الإحسانُ في توحيده(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)فيُوحِّدُ المُسلمُ ربَّه على الشهود والعِيان كما عبدَه بالدليل والبُرهان.
ومن الإحسان في التوحيد، الرضا بمقادِر الله، فيظهر الرضا والقبول في المنع والعطاء(عجبًا لأمر المُؤمن وأمرُه كلُّه خيرٌ، إن أصابَته سرَّاء شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاء صبرَ فكان خيرًا له، ولا يكونُ ذلك إلا للمؤمن)
ومن الإحسان في توحيده(وإذا سألتَ فاسأل اللهَ) فيتوجَّه العبدُ بقلبه لربه ربِّ الأرباب ومُسبِّب الأسباب طالبًا منه، مُعتمِدًا عليه، راضيًا عنه،
ومن الإحسان، تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، صلى الله عليه وسلم،في صدق محبَّته، ولزوم طاعته، وحُسن مُتابعته، وعدم مُجاوزة شرعه( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)آل عمران،
ومن الإحسان، إحسانُ العبد في عبادته ربَّه، والعبادة، اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة،
وإحسان العبادة، الإخلاص، والخشوع، وفراغُ البال، ومُراقبة المعبود،فللصلاة طهورُها، وآدابُها، وسُننها، وسكينتُها، وقُنوتُها، وطُمأنينتُها حتى تقول لصاحبها، حفِظَك الله كما حفِظتَني.
والإحسانُ في الزكاة والإنفاق، أن يُخرِج من طيِّب ماله بطِيبٍ من نفسه من غير منٍّ ولا أذًى، شاكرًا لربه فضلَه،إذ جعلَ يدَه هي اليدَ العُليا
والإحسانُ في الصيام، الصومُ إيمانًا واحتسابًا، يدَعُ الصائمُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل ربِّه ومولاه، ولخَلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك،
والإحسانُ في الحجِّ، أن يُهِلَّ الحاجُّ بالتوحيد، مُتمِّمًا الحجَّ والعُمرةَ لله، مُجتنِبًا الرَّفَثَ والفسوقَ والجِدالَ، فمن حجَّ ولم يرفُث ولم يفسُق خرجَ من ذنوبه كيوم ولدَتْه أمُّه،
وبعد حقِّ الله في الإحسان في توحيده وفي عبادته، وحقِّ رسوله محمدٍ،صلى الله عليه وسلم ،في الطاعة والمُتابعة يأتي الإحسانُ إلى عباد الله، ويأتي في المُقدِّمة الوالِدان
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا،وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)الإسراء،
ويتبَعُ الإحسانَ إلى الوالدَيْن، الإحسانُ إلى الرَّحِم وذوي القُربَى،بالبرِّ والصلة واللُّطفِ في القول والعمل(وليس الواصِلُ بالمُكافِئ ولكنَّ الواصِلَ من إذا قطعَت رحِمُه وصلَها)
ومن الإحسان، الإحسانُ إلى اليتَامَى والمساكين والضُّعفاء وأصحابِ الحاجات الخاصَّة، قولٌ ليِّن، وإنفاقٌ من غير منٍّ، ومُعاملةٌ من غير عُنف، وصادِقُ الخدمة، ورفعُ مُعاناتهم، وعدمُ التعالِي عليهم، والحَذَرُ من إشعارهم بما ابتُلوا به(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ)
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا،إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)
وممن يتعيَّنُ الإحسانُ إليهم، الغُرباءُ وأبناءُ السبيل والوافِدون، فهم لا يعرِفون الأعرافَ الجارية ولا العادات السائدة؛ بل لا يعرِفون منكم إلا أخلاقَكم وحُسن تصرُّفكم،
وأحسِنوا في بيعكم وشرائِكم، وحُسن التقاضِي فيما بينكم، (فرحِمَ الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، وسمحًا إذا قضَى، وسمحًا إذا اقتضَى)
ومن الإحسان،الإحسانُ بترك المُحرَّمات واجتنابها بالكلية، والانتهاء عنها ظاهرًا وباطنًا،
أما الإحسانُ إلى الحيوان( ففي كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ)
وللجماد نصيبُه من خُلُق المُسلم وإحسانه(وأُحُد جبلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه)
إن الإحسانَ في الإسلام يرسُمُ ويُرسِّخُ القِيَم الإنسانيةَ العُليا، ويترفَّعُ عن الأحقاد والضغائن،
إن خُلُق الإحسان هذا وعلى هذه الصفة، هو الذي يُجسِّدُ التحضُّر والسُّلُوكَ الإنسانيَّ الراقي، ويتجلَّى الإحسانُ فيه(الراحِمون يرحمُهم الرحمن)(وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه)
ذو الإحسان ينطلقُ في ميادين الإصلاح الواسِعة، يبذُلُ ما في وُسعه، ينشرُ الخيرَ والفضلَ والبرَّ في كل ما يُحيطُ به أو يمُرُّ به، المُحسِنُ عنصرٌ صالحٌ، ومُسلمٌ مُستقيمٌ مع نفسه ومع الآخرين، لا يصدُرُ عنه إلا ما يُحبُّه لنفسه ويرضاه للآخرين، وفي مسلَكه تزدادُ الحياةُ استقامة، والمحبَّةُ عُمقًا، وتسُودُ الثقة، وتنتشرُ الطُّمأنينةُ، فيكونُ الإنتاجُ المُثمِر، والسعادةُ الشامِلة،
المُحسِنُ شخصيَّةٌ مُهذَّبةٌ راقِيةٌ، يستبطِنُ بين جوانِحه جُملةً من مكارِمِ الأخلاق تدورُ بين العدل والإحسان وفقَ توجيهات الشرع وترتيباته وأولوياته.
الإحسانُ مِعيارُ قياس نجاح العلاقات، وثباتها، ودوامِها، وإذا كان العلُ أساسَ الحُكم وقيامِ الدول فإن الإحسانَ هو سبيلُ رُقِيِّها ورفعتِها وتقدُّمها(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)النحل،
ومن أجل هذا كان جزاءُ الإحسان عظيمًا، فإن الله،عزَّ شأنه،أحسنُ صِبغة، وأحسنُ قيلًا، ومن أقرضَ اللهَ قرضًا حسنًا وأبلَى بلاءً حسنًا ضاعفَ له المثوبةَ أضعافًا كثيرةً، ومنَّ علينا،سبحانه،بالرزقِ الحسن والمتاع الحسن في الدنيا، والحُسنى وزيادة في الأُخرى، ولمن أحسنَ في هذه الدنيا حسنة، ومن هاجرَ إليه بوَّأه في الدنيا حسنة، ومن اقترفَ حسنةً زادَ له فيها حُسنًا، ومن سألَه في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً فله نصيبٌ مما كسَب، ومن صدَّق بالحُسنى ودعاه بأسمائه الحُسنى أعطاه في هذه الدنيا الحُسنى، وجعلَه من الذين سبقَت لهم في الآخرة الحُسنى،
وكلما كان الإيمانُ أكمل والعملُ أحسن، كان الجزاءُ أوفَى والثوابُ أعظم(لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ)الزمر،
وللمُحسِنات من النساء مثلُ ذلك، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا)الأحزاب،
فيقول الإمام النووي،(الإحسانُ هو عُملةُ الصدِّيقين، وبُغيةُ السالكين، وكنزُ العارفين، ودأبُ الصالحين، وهل جزاءُ من صبرَ على البلوَى إلا التقرُّبُ من المَولَى، وهل جزاءُ من أسلمَ قلبَه لربِّه إلا أن يكفِيَه ويحفظَه)
فإذا حكمتُم فاعدِلوا، وإذا تعاملتُم فأحسِنوا،فإن الله مُحسنٌ يحبُّ المُحسنين،
إن للإحسان آفاقه الواسِعة في هذه الحياة، فهو ميزانُها الدقيقُ في كل جوانبها، بل هو خُلُقٌ عظيمٌ يتجاوزُ المُعاملةَ بالمثلِ أو ردَّ الجَميل، أو الشكرَ على الصنيع، إنه يرتفعُ بصاحبِه ويسمُو به إلى أن يُحسِنَ للناس ابتِداءً ولو لم يسبِق له منهم إحسانٌ؛ بل يترقَّى إلى مرتبةٍ أعلَى حين يُقابِلُ إساءَتهم إليه بالإحسان إليهم(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)المؤمنون،
مُقابلةُ الإساءة بالإحسان، هي التِّرياقُ النافعُ في مُخالطَة الناس، والدواءُ الناجِعُ لإصلاحِهم وبثِّ الأمان فيهم،بالإحسانٌ تتحوَّلُ العداوةُ معه إلى صداقةٍ، والبُغضُ إلى محبَّة،ويُقضَى على الضغائِن فينقلبُ العدوُّ صديقًا(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)فصلت،
يقول الثوري،الإحسانُ أن تُحسِنَ إلى المُسيءِ؛فإن الإحسانَ إلى المُحسِن تجارة،ومُقابلةُ السيئة بالحسنة شيءٌ عظيمٌ لا يُطيقُه إلا ذوو الهِمَم العالية(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )إنه صبرٌ جميلٌ، وتحمُّلٌ لأذى، وغُفرانٌ لإساءة،
إن هذه المواقف النبيلة المُتسامِحة سُرعان ما تُعطِي ثمارَها، وتُؤدِّي نتائِجَها من الحبِّ والقَبول، كم هم النُّبلاءُ الذين يُقابِلون هذه الإساءات مهما بلغَت مساوئُها ومهما كانت آثارُها، فأحبُّهم إلى الله أنفعُهم في يُسرٍ، ورفقٍ، وحُسن ظنٍّ وتجاوُزٍ،

اللهم آمِنَّا في أوطاننا،وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة،وتقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالَنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا، يا أرحم الراحمين،اللهم آميـــــن.