بسم الله الرحمن الرحيم



كتب إدوارد بيرنايز عن التلاعب بالجماهير

“التلاعب الواعي والذكي بالعادات المُنّظمة و بوجهات نظر الجماهير هو عنصر مهم في المجتمع. أولئك الذين يتلاعبون بآلية المجتمع الخفيّة يشكلون حكومة غير مرئية هي القوة الحاكمة الحقيقية لحياتنا. نحن محكومون، عقولنا مقولبة، أذواقنا مُحدّدة، أفكارنا مُقترحة ، من قبل رجال لم نسمع بهم أبداً … في كل عمل من حياتنا اليومية، سواء في مجال السياسة أو الأعمال التجارية، أو في سلوكنا الاجتماعي أو تفكيرنا الأخلاقي، حيث يهيمن علينا عدد قليل نسبياً من الأشخاص… الذين يفهمون العمليات الذهنية والأنماط الاجتماعية للجماهير. إنهم هم الذين يتحكمون بحياتنا مثل العرائس التي يُتحكم بها بالخيوط وبالمحصلة فهي تتحكم في العقل العام، وهم الذين يسخرون القوى الاجتماعية القديمة ويطورون طرقاً جديدة لإرضاخ العالم وتوجيهه.1

بروباغندا ، إدوارد بيرنايز

إدوارد بيرنايز هو من كتب هذا المقطع، ابن شقيق سيغموند فرويد والعقل الرائد وراء نشوء الإعلانات والدعاية الحديثة ومجال العلاقات العامة. كان تأثير بيرنز هائلاً. اعتمد بشكل كبير على رؤى عمه، طوّر تقنيات تلاعب ناجحة للغاية والتي لا تزال تستخدم إلى يومنا هذا ليس فقط من قبل الشركات لبيع المنتجات الاستهلاكية، ولكن أيضا من قبل القوى التي، حسب كلمات بيرنايز ، “تسيطر وتتحكم بالجماهير” (إدوارد بيرنايز).

وصف سيغموند فرويد، في كتابه “علم النفس الجماعي” و “تحليل الأنا”، علم النفس الجماعي بأنه “يهتم بالرجل الفرد كعضو من جماعة عرقية أو من أمة، أو طبقة، أو مهنة، أو مؤسسة، أو كجزء من حشد من الناس الذين تم تنظيمهم في مجموعة في وقت معين لغرض محدد.” (سيغموند فرويد) وبعبارة أخرى، يحاول علم النفس الجماعي أن يفهم كيف يتغير سلوك الفرد وأفكاره ومشاعره عندما يصبح جزءاً من مجموعة.

كان ميول البشر في الماضي لتشكيل مجموعات يستند بسبب فوائده في بقائهم على قيد الحياة. كان البشر الأقدمون الذين نُظّموا في قبائل أكثر قدرة على البقاء والتكاثر في البيئات القاسية التي يعيشون فيها. ومع ذلك، وبمساعدة التقنيات الحديثة، قام البشر اليوم بتحويل البيئة بطريقة تجعل قيمة بقاء المنظمات القبلية قديمة ولا نفع منها.

ولكن مع ذلك، فإن الغلبة القديمة والنزعة نحو التنظيم القبلي ما زالت حاضرة تلوح في أفق حياة معظم الناس، مع تماثل العديد من الناس اليوم وتقليدهم للصورة النمطية المتبعة، وبالتالي تحديد القوالب النمطية لهم وللآخرين على أساس أشياء مثل العرق أو الطبقة أو الجنس أو الجنسية أو الدين أو الحزب السياسي أو الأيديولوجية التي يلتزم بها المرء.

إن هذا النزوع المستمر للانخراط في تحديد هوية المجموعة هو، وفقا لبيرنايز، وظيفة وطريقة عمل الإحساس الأكبر الجمعي تجاه الأهمية الذاتية التي يستمدها الأفراد من تقليد واستخراج الاهمية الشخصية من المجموعة القوية. تماما مثل “قطيع الذئاب أقوى بأضعاف مقارنة مع قوة أفراد القطيع مجتمعة” (إدوارد بيرنايز) ، كذلك يشعر الفرد بالقدرة المحتملة للمجموعة ، ويستمد مشاعره من القوة في التعرف عليها.

بدءاً من أواخر القرن التاسع عشر، حاول عدد من المفكرين، وأبرزهم فرويد وغوستاف لو بون، فهم سبب مشاركة الأشخاص في تحديد المجموعة وكيف يؤثر تحديد المجموعة على عقل الفرد وسلوكه و التلاعب بالجماهير. وكما لاحظ بيرنايز، فإن النتائج والمعلومات التي ظهرت من هذه الدراسة جذبت انتباه من هم في مناصب السلطة الذين يريدون توسيع سيطرتهم على المجتمعات. ورأى هؤلاء الناس إمكانية أخذ نتائج هذه النظرية لعلم النفس الجماعي وتحويلها إلى أساليب عملية يمكن استخدامها للتلاعب في الجماهير من وجهة نظر خارج منظور الجمهور – وهي مهمة شكلت أساس عمل بيرنز في العلاقات العامة. كما شرح بيرنايز في كتابه الدعاية:

“كشفت الدراسة المنهجية لعلم النفس الجماعي … إمكانات حكومة المجتمع غير المنظورة من خلال التلاعب في الدوافع التي تحفز الإنسان في المجموعة … [أثبتت هذه الدراسات] أن المجموعة لديها خصائص عقلية مميزة عن تلك الخاصة بالفرد ، وتحفزها النبضات والعواطف التي لا يمكن تفسيرها على أساس ما نعرفه عن علم النفس الفردي. إذن فالسؤال يطرح بشكل طبيعي: إذا كنا نفهم آلية ودوافع العقل الجماعي ، فهل من غير الممكن السيطرة والتحكم بالجماهير وفقا لإرادتنا بدون علمهم؟ “(الدعاية ، إدوارد بيرنايز)

إن الإمكانات الهائلة لاستخدام النتائج المتقدمة من علم نفس المجموعة للتحكم في الجماهير هي في جزء منها دالة على حقيقة أن الفرد يمكن أن يتأثر بمجموعة أو حشد حتى عندما يكون معزول جسدياً عنهم. وكما أشار بيرنايز في كتابه “بلوَرة الرأي العام” ، فإن الحشد “لا يعني مجرد تجميع مادي لعدد من الأشخاص … الحشد هو حالة ذهنية إلى حد ما”. (بلورة الرأي العام ، إدوارد بيرنايز) ما دام الشخص يتفاعل في تحديد هويته من مجموعة، سيتم تغيير عقولهم وسلوكهم من خلال التأثير المستمر لعلم النفس الجماعي، حتى مع عدم حضور أعضاء المجموعة فعلياً وجسدياً لأن التأثير ذهني ونفسي.

ولكي نفهم كيف أن ميل البشر للانخراط في تحديد هويتهم من المجموعات يجعل التلاعب بالجماهير ممكناً، علينا اللجوء إلى واحدة من أفكار فرويد التي أثرت بشكل كبير على أساليب التلاعب التي طورها بيرنايز. في كتابه برباغندا ،والذي نُشر في عام 1928 ، أوضح بيرنايز:

“أشار، علماء النفس في مدرسة فرويد، إلى أن العديد من أفكار الإنسان وأفعاله هي بدائل تعويضية عن الرغبات التي اضطر إلى كبتها. قد يكون الشيء مرغوباً فيه ليس بسبب قيمته الجوهرية أو فائدته، بل لأنه اُختير بلا وعي كي يُرى فيه رمزاً لشيء آخر، وهو الرغبة التي يخجل من أن يعترف بها لنفسه. قد يظن الرجل الذي يشتري سيارة أنه يريدها لأغراض التنقل … ربما يريدها لأنه رمز للمركز الاجتماعي، أو دليل على نجاحه في العمل، أو وسيلة لإرضاء زوجته”. (الدعاية ، إدوارد). بارنيز)

ما اقترحه فرويد هو أن هناك في كثير من الأحيان انفصاماً بين أفكار المرء الواعية، وبين المشاعر والرغبات التي لا تتلاءم مع الصورة الذاتية للإنسان والتي يتم بالتالي قمعها وكبتها. هذه الحقيقة، والتي اعترف بها بيرنايس، تجعل البشر عرضة للتلاعب. فما ينطوي عليه ذلك إذا كان بإمكان المرء تصميم دعاية أو عمليات تأثير نفسية ممنهجة تتجاوز الوعي العقلاني للفرد، وتستهدف بدلاً من ذلك العواطف والرغبات المخفية و المكبوتة، فمن الممكن دفع الناس لتبني معتقدات وسلوكيات دون علمهم عن الدوافع الكامنة التي تقودهم لذلك. كما أوضح Bernays:

“… يتم تحفيز الناس إلى حد كبير عبر دوافع يخفونها هم عن أنفسهم … من الواضح أن الجهة المسؤولة عن الدعاية الناجحة يجب أن تفهم الدوافع الحقيقية وأن لا تكتفي بقبول الأسباب التي يعطيها الناس لما يفعلونه” (الدعاية ، إدوارد بيرنايز)

من الممكن أن يدرك الفرد الدوافع الكامنة، على الرغم من صعوبة ذلك في كثير من الأحيان بدون وعي وبدون معرفته نفسه الحقيقية، التي تقود معتقداته وأفعاله من خلال النقد الذاتي الصادق والصريح. ومع ذلك ، عندما يستسلم المرء لآثار تحديد هويته من خلال المجموعة، يصبح مثل هذا النقد الذاتي شبه مستحيل فهذا هو التلاعب بالجماهير . وكتب فرويد: “مجموعة ساذجة بشكل غير عادي وعرضة للتأثير بشكل كبير” ، “وتفتقر إلى مهارة التفكير الناقد.” (علم نفس المجموعة وتحليل الأنا ، سيغموند فرويد) فعندما يحدد الفرد هويته ويستنبطها من مجموعة، يقوم الأفراد بالتخلي عن تقييم الذات وترك التحليل المنطقي والبحث عن الحقيقة لصالح الحفاظ على مصالح المجموعة وتماسكها. ومع ازدياد ضعف قدراتهم على النقد والإدراك بسبب تأثير قوى النفس الجماعي، يصبحون أكثر عرضة لعمليات التأثير على النفس الممنهجة والمصممة لاستهداف الرغبات والعواطف المكبوتة أو اللاواعية.

التلاعب بالجماهير في يومنا هذا، يبدو أن هناك قوى تعمل من خلال وسائل الإعلام الرئيسية والثقافة الشائعة الرخيصة المتداولة بوسائل الإعلام، والتي تحاول زيادة ميل الفرد إلى الانخراط في أنواع معينة من تحديد الهويات من خلال المجموعات – وهي تحديد الهوية التي تقسم السكان إلى مجموعات متضاربة. هذه الظاهرة لها عواقب وخيمة على كل من استقرار وحرية مجتمع ما حيث تسمح لمن هم في السلطة بتأسيس التكتيك القديم للانقسام والانتصار أو فرق تَسٌد.

من خلال تقسيم السكان على أساس مجموعات مثل العرق أو الطبقة أو الدين أو الجنس أو التفضيل السياسي، أو بعبارة أخرى إلى مجموعات معرضة بشكل طبيعي للصدام، فإن آثار قوة النفس الجماعي تجعل الخطاب العقلاني والنقاش بين الأفراد في هذه المجموعات المنفصلة أمراً مستبعداً للغاية.

“كل مجموعة … تعتبر المعايير الخاصة بها نهائية وغير قابلة للجدل، وتميل إلى رفض جميع المعايير المتعارضة أو المختلفة على أنها لا يمكن الدفاع عنها”. (بلورة الرأي العام ، إدوارد بيرنايز)

تميل الجماعات، الغير قادر على تسوية الخلافات في الآراء عبر الخطاب العقلاني، إلى العودة إلى وسائل أكثر تدميراً في محاولتها لإلحاق الهزيمة بتلك الجماعات التي يرون فيها تهديداً لمعتقداتهم. وهكذا فإن المجتمع الذي تهيمن عليه مثل هذه الجماعات ينقسم بسهولة في صراع معادٍ بشكل متزايد، ونتيجة لذلك، لا يصبح السكان ككل ضعفاء كما أشار مكيافيلي، ولكن يتم تحويل أعينهم بعيداً عن أنفسهم الحقيقية أولاً، وثانياً عن أفعال أولئك الذين يعملون خلف الكواليس. والذين يشكلون، على حد تعبير بيرنايز، “الحكومة غير المرئية التي تتحكم في مصائر الملايين” (الدعاية ، إدوارد بيرنايز).

وفي ضوء ذلك ، فإن نزعة الأفراد اليوم للمشاركة في تحديد هويتهم انطلاقا من المجموعة لا تشكل خطراً على حرية واستقرار المجتمع فحسب، بل هي أيضاً تعدّ انحدار للوعي إلى حالة نفسية أكثر بدائية، وبالتالي من وجهة نظر الحداثة، وهو اتجاه مرضي يجب التغلب عليه. أو كما قال فرويد:

“لكل فرد … له نصيب في العديد من العقول الجماعية – أولئك من عرقه، من طبقته، من عقيدته، من جنسيته ، وما إلى ذلك – ويمكنه أيضاً أن يرفع نفسه فوقها إلى حد امتلاكه لقصاصة الاستقلال و الأصالة. “(مجموعة علم النفس وتحليل الأنا ، سيغموند فرويد
)