بسم الله الرحمن الرحيم





في 15 أبريل/نيسان 2013، لم يكد المتسابقون في ماراثون بوسطن يجتازون خط النهاية، حتى وقع تفجيران إرهابيان لا يفصل بينهما سوى عشر ثوان، وأسفرا عن مقتل ثلاثة أشخاص وجرح المئات، منهم من فقدوا أطرافهم.
وحظي الحادث الإرهابي بتغطية إعلامية مكثفة لشهور، أو بالأحرى لسنوات، بثت خلالها تقارير تعرض لحظة التفجير وما أعقبها من فوضى ودخان متصاعد، وامتلأت الصحف بصور مرعبة للشوارع المخضبة بالدماء وبكاء الجمهور الذين فقدوا أصدقاءهم أو أقاربهم ومشاهد الضحايا بملابسهم الممزقة.
وأجرت الباحثة أليسون هولمان وزملاؤها بجامعة كاليفورنيا، دراسة عن تأثير الحادث على الصحة النفسية. وكما كان متوقعا، أثر الحادث سلبا على الصحة النفسية للأشخاص الذي شهدوا التفجيرات بأنفسهم وعانوا من مشاكل نفسية جسيمة.

لكن الغريب أن هناك مجموعة أخرى من المشاركين ذكروا أنهم يعانون من ضغط نفسي حاد رغم أنهم لم يشهدوا الحادث وقت وقوعه، إذ كانت هذه المجموعة تتابع التغطيات الإخبارية للحادث لست ساعات يوميا أو أكثر في الأسبوع اللاحق. وكانت احتمالات الإصابة بالضغط النفسي الحاد بين أفراد هذه المجموعة أعلى بتسع مرات مقارنة بالمجموعة التي شهدت الحادث على الطبيعة.
وتقول هولمان إنهم فوجؤوا من النتائج، وترى أن الناس يقللون من شأن الآثار النفسية للتعرض للأخبار لساعات طويلة.

إذ اكتشفوا أن الأخبار قد تتسرب إلى العقل الباطن وتؤثر على تصرفاتنا وآرائنا، بدءا من نظرتنا للمهاجرين وحتى ما نراه في أحلامنا. وقد تقودنا إلى إساءة تقدير بعض المخاطر وتشكل رؤيتنا للدول الأجنبية وقد تعرض اقتصادات للخطر.
وتزيد التغطيات الإخبارية مخاطر الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب. وظهرت أدلة جديدة تثبت أن التبعات النفسية للتغطيات الإخبارية تزيد مخاطر الإصابة بالأزمة القلبية أو مشاكل صحية أخرى في السنوات اللاحقة.
ومنذ أن ظهر الفيروس الغامض الجديد في الصين العام الماضي، لم يكتف الكثيرون بمتابعة الأخبار على شاشات التلفاز التي سجلت أعلى نسب مشاهدة فحسب، بل كانت البرامج التي تبث عبر الإنترنت والقنوات الإذاعية ومواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت مصدرا إضافيا، أو رئيسيا أحيانا، للتعرف على آخر المستجدات لحظة بلحظة.
وترسل بعض هذه الوسائل إخطارات طوال اليوم ليظل الشخص منشغلا بأخبار الوفيات والإصابات والاجراءات الجديدة والتحليلات من لحظة الاستيقاظ وحتى الخلود إلى النوم يوميا.
وأشارت دراسة في عام 2018، إلى أن المواطن الأمريكي العادي يقضي نحو 11 ساعة يوميا أمام شاشات التلفاز، وقد لا يجد مناصا من مشاهدة أخبار الأحداث العالمية التي تظهر بين الحين والآخر.
عيوب نفسية متأصلة
وربما تلعب تحيزاتنا المسبقة دورا كبيرا في مفاقمة الضغوط النفسية الناتجة عن متابعة الأخبار، إذ أن البشر بطبيعتهم ينزعون للتركيز على الجوانب السلبية أكثر من تركيزهم على الإيجابية، فيما يطلق عليه "التحيز السلبي".

ولهذا قد يلاحظ المرء العيوب أكثر مما يلاحظ المزايا. وأثبتت دراسات أن الخسائر والعيوب أكثر تأثيرا على قراراتنا من المكاسب والمزايا، وأن الخوف أكثر تحفيزا للمرء من الفرص.
ونشر فريق الرؤى السلوكية التابع للحكومة البريطانية تقريرا أشار فيه إلى أن الحوافز السلبية أكثر تأثيرا على سلوكيات الناس في السياسات الحكومية من الحوافز الإيجابية.
وقد يحملنا التحيز السلبي على الاهتمام بالأخبار السيئة أكثر من اهتمامنا بالسارة. وعندما قرر موقع "سيتي ريبورتر" الإخباري في روسيا ألا ينشر إلا تقارير إيجابية فقط ليوم واحد في عام 2014، فقد نحو ثلثي قرائه. وهذا يذكرنا بمقولة الكاتب البريطاني آرثر كلارك، إن الصحف التي لا تنشر إلا أخبار العالم المثالي تبعث على الملل.
وأثبت العلماء منذ عقود أن نظرة الجمهور للآفاق الاقتصادية يغلب عليها التشاؤم، رغم أن فترات الكساد والركود يعقبها عادة نمو اقتصادي.
وقد يكون لهذه النظرة التشاؤمية للمستقبل تبعات سلبية جسيمة، فإن هاجس فقدان الوظيفة قد يمنع البعض من الاستثمار، بل وقد يعجل التشاؤم الجماعي بالانهيار الاقتصادي.
إذ خلصت دراسة في عام 2003 إلى أن الأخبار الاقتصادية السلبية تنعكس على توقعات الناس. وأشارت أخرى إلى أن التقارير الإخبارية ترسم صورة أكثر كآبة للواقع.
وقد تؤثر الأخبار أيضا على حركة السياحة. فإن الناس عادة يبتعدون عن المناطق التي تشهد اضطرابات سياسية أو حروبا أو نشاطا إرهابيا. وقد تكون وسائل الإعلام أحيانا هي مصدر النصائح حول المناطق الآمنة، سواء بشكل مباشر، عن طريق نقل تعليمات الحكومات بالابتعاد عن بعض المناطق، أو بشكل غير مباشر، عن طريق التأثير على الجمهور من خلال التحيزات اللاشعورية.
وقد لوحظ أن طرق عرض المعلومات قد تؤثر على خياراتنا وتحدد مجال رؤيتنا. فإن الدواء الذي يوصف بأنه فعال بنسبة 95 في المئة في علاج المرض، أفضل من الدواء الذي يخفق بنسبة خمسة في المئة من المرات، رغم أن النتيجة واحدة.
وعندما عرض باحثون في إحدى الدراسات على مشاركين بعض التقارير الإخبارية عن الحوادث الإرهابية والاضطرابات السياسية، اكتشفوا أن طريقة صياغة الخبر قد تغير آراء المشاركين حول مدى خطورة بعض الدول. فإن قراءة عنوان مثل "الهجمات الإرهابية التي شنها تنظيم القاعدة" أكثر إثارة للخوف من قراءة عنوان "الهجمات الإرهابية التي شنتها جماعة انفصالية متمردة محلية"، رغم أن العنوانين يحملان نفس المعنى.
وقد أثارت دراسة أجريت عام 2014 مخاوف أخرى حول التبعات الصحية للأخبار. إذ أشارت إلى أن تركيز الأخبار على بعض الأنواع من السرطان، مثل سرطان الدماغ، وتجاهل أخرى، مثل الأورام السرطانية التي تصيب الجهاز التناسلي الذكري، قد يؤثر على تقديرنا لحجم مخاطر الإصابة ببعض الأنواع من السرطان وهذا يجعلنا نتغاضى عن علامات الإنذار المبكرة.

واللافت أن خوف الناس المبالغ فيه من نوع معين من السرطان، ربما بسبب التغطيات الإخبارية، ينعكس على حجم الموارد التي تخصصها الحكومة للأبحاث حول أسباب هذا النوع من السرطان وطرق علاجه.
وقد يتغلغل تأثير الأخبار إلى أحلامنا. إذ ذكر الكثيرون مؤخرا أنهم يرون أحلاما مليئة بالصور والتفاصيل، وقد يرجع ذلك إلى أن العزلة المنزلية تزيد من جموح الخيال، أو ربما إلى الطريقة التي تسلط بها وسائل الأعلام الأضواء على أخبار الوباء.
وربطت دراسات بين هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وبين الأحلام المفزعة. وترتبط التغيرات في الأحلام ارتباطا وثيقا بمشاهدة تطورات الأحداث على التلفاز. وتعزو روث بروبر، الأخصائية النفسية من جامعة مونتكلير بنيوجيرسي، ذلك إلى أن مشاهدة صور الضحايا على التلفاز قد تكون صادمة لبعض الناس، ولهذا لم يلحظ الباحثون نفس الأثر لدى المشاركين الذين كانوا يستمعون للأخبار على الراديو أو يتحدثون عنها مع أصدقائهم وأقاربهم.
الأخبار مضرة بالصحة
ثمة مؤشرات تنبئ بتزايد معدلات القلق والخوف بين الناس بعد شهور من متابعة سيل العناوين والأخبار عن وباء كورونا المستجد. وذكرت مؤسسات خيرية معنية بالصحة النفسية حول العالم أن هناك ارتفاعا غير مسبوق في الطلب على خدمات الرعاية الصحية.
وقد لاحظ علماء النفس منذ سنوات أن الأخبار تفاقم الضغوط النفسية. إذ أشارت دراسات أجريت على الأمريكيين في أعقاب أزمة تفشي إيبولا في عام 2014، وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وهجمات الجمرة الخبيثة "أنثراكس" في عام 2001، وزلزال سيشوان عام 2008، إلى أنه كلما زادت الساعات التي يمضيها الشخص في متابعة التغطيات الإخبارية، زادت احتمالات الإصابة بالقلق واضطراب ما بعد الصدمة.
ويرى البعض أن هذا التأثير مرده ظاهرة "التنبؤ العاطفي"، أي ميل البعض للتنبؤ بمشاعرهم حيال شيء ما مستقبلا. فإذا تخيلت مثلا أنك ستفوز بالياناصيب غدا، ستغمرك حالة من السعادة.
وفي الوقت الحالي ينشغل معظم الناس بالمحن التي سيتعرضون لها مستقبلا، وهذا يوجههم نحو سلوكيات غير صحية.
وتقول ريبيكا تومسون، الأخصائية النفسية بجامعة كاليفورنيا، إن خوف الشخص من تهديد كبير في حياته قد يدفعه لجمع أكبر قدر من المعلومات لفهم ما يدور من حوله، وهذا يؤدي إلى ظاهرة تخمة المعلومات، حين تتجاوز المعلومات قدرة المرء على الاستيعاب.
وأشارت دراسة إلى أن الأشخاص الذين كانوا أكثر متابعة للأخبار قبل حدوث إعصار إيرما الذي ضرب فلوريدا في عام 2017، كانوا أكثر عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة. وترجع تومسون ذلك إلى التغطية الإعلامية المكثفة المثيرة للعواطف التي تنبأت بأسوأ التوقعات.
ولاحظ باحثون في دراسة عام 2012، أن قراءة الأخبار السلبية تؤدي إلى رفع مستوى هرمون الكورتيزول المرتبط بالضغط النفسي في الدم لدى النساء. وكشفت دراسة أخرى أن الأخبار السلبية قد تؤدي إلى تسارع نبضات القلب.
ولاحظت هولمان أن الأشخاص الذين كانوا يعانون من الضغوط النفسية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كانوا أكثر عرضة للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية بنسبة 53 في المئة في السنوات اللاحقة. وربطت دراسة أجرتها مؤخرا بين متابعة أخبار هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول لأربع ساعات أو أكثر يوميا وبين ارتفاع احتمالات الإصابة بمشاكل صحية في الأعوام اللاحقة.
وترجع هولمان هذا التأثير إلى تكرار عرض الصور في التغطيات الإعلامية عبر التفاز. وتشير إلى أن بعض وسائل الإعلام تستخدم أحيانا الأخبار كوسيلة لإغراء المشاهدين على متابعتها. إذ تعتمد الكثير من المؤسسات الإعلامية على عوائد الإعلانات، ولهذا تضفي بعض المؤثرات البصرية والسمعية على الأخبار لجذب انتباه المشاهدين. ويتقاضى مذيعو الأخبار في الولايات المتحدة ملايين الدولارات سنويا.
وترى هولمان أن التغطيات الإخبارية لوباء كورونا المستجد ستترك آثارا نفسية دائمة على بعض الناس. وتعزو ذلك إلى تعدد مصادر الأخبار وسهولة الوصول إليها في الوقت الراهن، وهذا يؤثر على صحتنا النفسية.
ولهذا فإذا لاحظت أنك تتابع عناوين الأخبار للمرة المئة في اليوم، أو تبحث بلهفة عن آخر المستجدات على وسائل التواصل الاجتماعي، فتذكر أن تأثير الأخبار على سلوكياتك وعلى صحتك قد يفوق توقعاتك.