السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
فما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها،وفناء لذاتها ، ودوام الآخرة ، ولذاتها ونعيمها ، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر
في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال(وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ،وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِع،والإصبع يُنقص من اليم إذا غُمس فيه ،ولو قليلاً جداً ،فمع تكرار غمسه ،ولو بلغ ذلك عدداً كبيراً جداً ـ يَفرغ ما في اليم, والآخرة لا نهاية لها بخلاف الدنيا على ما قاله علماؤنا
ويقال مثله في المخيَط إذا أدخل البحر في حديث أبي ذر القدسي،أم أن المخيَط لايعلق به شيء
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم(وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِه،وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَه،فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ )
ففي قوله صلى الله عليه وسلم(وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ )
أي،ما مثل الدنيا من نعيمها وزمانها (فِي الآخِرَةِ )أي،في جنبها ومقابلة نعيمها وأيامها (إِلاَّ مثل)جعل أحدكم (إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ) أي،مغموسا في البحر ذي الماء الكثير
(فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ) أي،فليتأمل أحدكم بأي شيء يرجع أصبع أحدكم من ذلك الماء ،وليتفكر بأي مقدار من البلة الملتصقة من اليم يرجع أصبعه إلى صاحبه ،
فمنح الدنيا ومحنها في كسب الجاه والمال من الأمور الفانية السريعة الزوال ، فلا ينبغي لأحد أن يفرح ويغتر بسعتها ، ولا يجزع ويشكو من ضيقها ،
بل يقول في الحالتين(لا عيش إلا عيش الآخرة ، فإنه قاله، صلى الله عليه وسلم ،مرة في يوم الأحزاب ، وأخرى في حجة الوداع وجمعية الأصحاب ، ثم يعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة ،وأن الدنيا ساعة فيصرفها في الطاعة،
قال الطيبي رحمه الله،وضع موضع قوله فلا يرجع بشيء كأنه ،صلى الله عليه وسلم ،يستحضر تلك الحالة في مشاهدة السامع ، ثم يأمره بالتأمل والتفكر هل يرجع بشيء أم لا،
وقال الإمام النووي في،شرح مسلم، أنه لا يعلق من الماء فيها كثير،فما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها ، وفناء لذاتها ، ودوام الآخرة ، ودوام لذاتها ونعيمها ، إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالأصبع إلى باقي البحر،
وكتب الحسن البصري إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز كتابا فيه،
فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام،


وإنما أنزل إليها آدم عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين؛ فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، فاحذر هذه الدنيا الغرارة الخداعة، سرورها مشوب بالحزن، فلو أن الخالق لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر،
فما لها عند الله قدر ولا وزن، ما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا محمد مفاتيحها وخزائنها، فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه،

زواها الله عن الصالحين اختيارا، وبسطها لأعدائه اغترارا، أفيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟، ونسي ما صنع الله بمحمد عليه الصلاة والسلام حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بسط له في الدنيا، فلم يخف أن يكون قد مكر به، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه،
وفي شأن الدنيا ، ومعرفة حقيقتها ، يقول الله تعالى(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)الحديد،
والمؤمن لا يركن لها لأنها سجنه وإنما يُطلق من سجنه ويُفك أسره بموته إذا قدم على ربه،
ولو كانت الدنيا تعدل عند الله شيئاً ذا قيمة لوهبها الصالحين من عباده ،ولكنه عز وجل ادخر لهم كرامته ،
عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ
(إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِى سَقِيمَهُ الْمَاء)سنن الترمذي،
فإذا علم الموفق أن عباد الله الصالحين الذين يُحبهم قد أكرمهم بحجب الدنيا وزهرتها عنهم، ونزههم عن فتنتها ،وأخلصهم له ولعبادته ،وادّخر لهم كرامته عنده يوم يلقونه بقلوب مطمئنة ،ونفوسٍ راضيةٍ ،بما قدره ربهم الرحيم بهم جلّت قدرته ،وتعالت حكمته،
فكيف يأسى بعد ذلك إنسانٌ عاقلٌ على ما يفوته من حطام الدنيا وزخارفها الزائلة عمّا قريب،
والزهد في الدنيا ،هو ترك ما لا يحتاج إليه من الدنيا ،وإن كان حلالا ،والاقتصار على الكفاية والورع وترك الشبهات،
فللزهد في الدنيا حقيقة وأصل وثمرة،
أما حقيقته، فهو عزوف النفس عن الدنيا وانزواؤها عنها طوعاً مع القدرة عليه.
وأما أصله ، فهو العلم والنور الذي يشرق في القلب حتى ينشرح به الصدر ويتضح به أن الآخرة خير وأبقى ،وأن نسبة الدنيا إلى الآخرة أقل من نسبة حصى إلى جوهرة.
وأما ثمرته ، فهي القناعة من الدنيا بقدر الضرورة وهو قدر زاد الراكب،


اللهم قنعنا بما رزقتنا وبارك لنا فيه واخلف علينا فيه من كل خير،واجعلنا نرضي بما قسمت لنا ،اللهم أمين يارب العالمين.