د. القره داغي: التأمين التجاري بصورته الحالية يخالف الشريعة الإسلامية

أكد الدكتور علي محيي الدين القرة داغي استاذ ورئيس قسم الفقه والاصول جامعة قطر ان الاسلام لم يكتف بمجرد الدعوة الى التعاون والتكافل بل شرع لأجل تحقيق مجموعة من الاحكام فجعل الصدقات المفروضة ركنا من اركان الاسلام، وفرض النفقات والكفارات والحقوق والالتزامات التي لو طبقت لتحقق التكافل الطبقي واصبح كل فرد يعيش في ظل دولة الاسلام في أمن وأمان ورفاهية وعيش كريم اضافة الى واجبات الدولة المسلمة نحو كل من يعيش في ظلالها.

وأضاف: الاسلام له منهجه في تقرير الاشياء على ضرورة رؤيته لمسيرة الفرد والمجتمع بما يحقق المصالح لهما ويدرأ عنهما المضار والخيانات والمفاسد لذلك يضع الضوابط، والقيود التي قد تتعارض في الظاهر مع المصالح الموهومة، لكنها عند التحقيق وفي المآل ستكشف الخفايا ويتبين للجميع ان ما قرره الاسلام هو الخير والمصلحة والحق. قال تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق أو لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد» (فصلت 53).

وقال في كتابه التأمين الاسلامي «دراسة فقهية تأصيلية مقارنة بالتأمين التجاري في التطبيقات العملية، اننا اذا نظرنا الى التأمين كفكرة لتحقيق التعاون ودفع شرور العوز والحاجة والعجز ولتفتيت المخاطر بين الجماعة فإن هذه الفكرة مقبولة شرعا، بل مطلوبة، لكن اذا نظرنا اليه من حيث عقوده وصوره العملية الحالية في الفكر الرأسمالي الذي لا يبحث الا عن تحقيق الربح بأية وسيلة ممكنة دون النظر الى الحلال أو الحرام، بل ولا الى القيم والمثل العليا، لوجدنا ان الغاية القصوى منها هي الاسترباح وتحقيق المكاسب ولو كان على حساب الآخرين أو مخالفة الشرع.

وأوضح د. القره داغي ان المفكرين والفقهاء واصحاب المال الاسلاميين بحثوا في هذا الموضوع من جانبين:

الجانب الأول: استيعاب عقود التأمين ثم تبيان ما يتفق منها مع المبادىء الاسلامية والخوض فيها بعمق مع ملاحظة كل الظروف والملابسات التي تحيط بها لأن الحكم على شيء فرع من تصوره.

الجانب الثاني: مبدأ التعاون ما دام مشروعا ومطلوبا في شريعتنا الغراء علينا جميعا ان نصيغه صياغة اسلامية، وان نضعه في اطار عقود ونظم تحقق هذا الغرض المنشود على أكمل وجه، لأن هذه الشريعة ما تركت مصلحة حقيقية الا واقرتها، ولا مفسدة الا وحظرتها، فهي مصلحة كلها عدل كلها رحمة كلها كما انها لم تترك شيئا محرما دون بديل نافع صالح.

وأضاف: ان الفكر الاسلامي قد خطا خطوات عملية جادة نحو التطبيق الشامل للاقتصاد الاسلامي، فقد طبقت فكر البنوك الاسلامية بنجاح، وبدأ كذلك تطبيق التأمين الاسلامي واعادة التأمين في كثير من مجالاته حتى بلغ عدد شركات التأمين الاسلامية العشرات. وبدأ الدكتور القره داغي كتابه كما هو الحال في القانون المدني مشيرا الى ان التأمين هو تحقيق الأمن والاطمئنان وقد استعمله القرآن الكريم في هذا المعنى كثيرا فقال تعالى «وآمنهم من خوف» (قريش 4)، وقال تعالى «أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» (الانعام 82).

وأضاف: ان التأمين في الاصطلاح القانوني والاقتصادي كما ورد عن الدكتور عبدالرازق الشنهوري في كتابه الوسيط في شرح القانون المدني.. هو عقد يلتزم احد طرفيه هو المؤمن من قبل الطرف الآخر وهو المستأمن أداء ما يتفق عليه عن تحقق شرط أو حلول اجل نظير مقابل نقدي معلوم».

الرأي القانوني

وعرض د. القره داغي التكييف القانوني للتأمين وخصائصه كما ورد في عدد من المراجع قائلا: ان عقد التأمين يتصف بما يأتي انه عقد رضائي يتم بتراضي الطرفين، ولا يتوقف انعقاده على شكل معين، وانه عقد معاونة، وانه عقد ملزم للطرفين بعد تمام الاجراءات المطلوبة وانه عقد زمني يكون الزمن عنصرا اساسيا فيه، وانه عقد مدني من حيث الاصل كما انه عقد حسن النية.

الأسس الفنية

أما الأسس الفنية للتأمين فقد حصرها الدكتور: القره داغي بإيجاز فيما يلي:

أولا: تقدير الاحتمالات والمقاصة بين المخاطر:

وذلك من خلال توزيع عبء المخاطر على مجموعة المؤمن لهم عن طريق دفع كل منهم لقسط معين، حيث تتركز مهمة المؤمن في تجميع اكبر قدر ممكن من الاخطار المتشابهة حتى يسهم كل مؤمن له بنصيبه في تحمل نتائج ما يتحقق منها، فالمؤمن نفسه لايدفع شيئا - في الغالب - من رأس ماله، ولكن يجري المقاصة بين ما تحقق من المخاطر، وما لم يتحقق حين توزع نتائجها على المؤمن لهم جميعا، وحتى يكون تقدير الاحتمالات ممكنا على أساس قانون الكثرة.

وطبقا للإحصاءات يجب ان تتوافر في الخطر المؤمن منه الشروط والضوابط الآتية:

1- ان يكون الخطر متفرقا، فلا يجتمع وقوعه في وقت واحد، ولذلك يكون من العسير جدا التأمين من الزلازل والبراكين والحروب والاضطرابات في بلاد تتعرض عادة لهذه الاخطار، إذ الخطر لا يتحقق متفرقا بل يتحقق متجمعا، ولذلك تستثني شركات التأمين هذه الحالات في عقودها.

2- ان يكون الخطر متماثلا متجانسا في طبيعته، فلا يمكن ان تجري المقاصة بين مخاطر متباينة في الطبيعة كالحريق، والوفاة والمسؤولية، لأنه لا يمكن جمعها في جدول احصاء واحد، وانما يكون التأمين على كل واحد منها مستقلا يكون له جدول خاص به.

3- ان يكون الخطر منتظم الوقوع إلى درجة مألوفة، فلا يكون نادرا ولا من الكثرة بحيث يكلف التأمين منه ثمنا باهظا.

4- ان تلاحظ مدة التأمين، حيث تعتبر المدة عاملا من عوامل تناسق الأخطار، وقيمتها.

وهناك امور فنية اخرى تدخل في عملية المقاصة والحسبة.

ثانيا عوامل الاحصاء:


حيث يرجع المؤمن إلى حساب احتمالات وقوع الاخطار المؤمن ضدها، ومدى جسامتها باللجوء إلى احصاء الاحتمالات من خلال قانون الاعداد الكثيرة، وصفات الخطر المؤمن ضده.

وظائف ومهام

واشار الدكتور القره داغي الى ان للتأمين وظائف مهمة ويحقق عدة فوائد ذات طابع اجتماعي يؤديها على الصعيد الاقتصادي من اهمها:

_ جلب الامان حيث يحقق عقد التأمين الامن والامان على مستوى الفرد من خلال التأمين ضد مخاطر الحياة حيث يكون في مأمن عندما يقع الخطر المؤمن منه سواء كان يتعلق بالأشياء او الاشخاص او على المستوى الاجتماعي حيث يساعد على بث روح الثقة وعلى ازدهار الاقتصاد وزيادة الانتاج سواء كان من خلال الضمان الصحي ام الحفاظ على ادوات الانتاج.

_ تجميع رؤوس الاموال للفرد والمجتمع من خلال الادخار وتجميع رؤوس اموال ضخمة تجعل من شركات التأمين قوة مالية ضاربة وبالتالي تساعد على الانتاج وتشغيل الايدي العاملة.

_ تنشيط الائتمان الفردي والائتمان العام حيث يقدم التأمين عدة وسائل تقوي انتماءهم مثل تدعيم الضمان والرهن من خلال تقديم وثيقة التأمين اضافة الى ان الدولة تستفيد من احتياطات التأمين من خلال طرح سندات في الاسواق المالية.

_ الدور الدولي للتأمين العادي واعادة التأمين من خلال توزيع الاخطار على اكبر رقعة جغرافية ممكنة واقامة التوازن.

أنواع التأمين

وأوضح د. القره داغي ان للتأمين نوعين هما التأمين من الاضرار والتأمين على الاشخاص والتأمين من الاضرار له انواع كثيرة منها التأمين البحري والتأمين البري والتأمين الجوي والتأمين على الاشياء والتأمين من المسؤولية كما ان التأمين على الاشخاص له انواع كثيرة منها التأمين من الاصابات والتأمين من المرض والتأمين على الحياة وتأمين الزواج او المواليد هكذا.

وقدم الدكتر القره داغي شرحا موجزا لهذه الانواع مع التركيز على المبادئ التي يقوم عليها التأمين على الاشخاص او التأمين من الاضرار ومبادئه الاساسية وبالأخص مبدأ المصلحة ومبدأ التعويض.

وتحدث د. القره داغي عن التأمين في القانون القطري مشيرا الى انه كان لدولة قطر القانون الصادر بمرسوم رقم 1 لسنة 1966 والخاص بالاشراف والرقابة على شركات وكلاء التأمين ثم صدرت اللائحة التنفيذية من وزير الداخلية رقم 4 لسنة 1992 بشأن توحيد الشروط الخاصة بكل من وثيقتي التأمين الاجباري والاختياري على المركبات وقد عرض د. القره داغي داخل الكتاب النصوص الخاصة بالتأمين في القانون المدني القطري الجديد قانون 22 لسنة 2004 باصدار القانون المدني الذي نشر في الجريدة الرسمية بالعدد 11 في 11 جمادى الاخر 1425هـ، 8 اغسطس 2004م.

التأمين والفقه الإسلامي

بعد ان عرض الدكتور القره داغي الجانب القانوني للتأمين انتقل بعد ذلك للحديث عن احكامه الشرعية لأنواعه الاساسية وهي التأمين التجاري بقسط ثابت والتأمين التبادلي او التعاوني حيث عرض عددا من الفتاوى وقرارات بعض المجامع الفقهية في هذا الشأن كما عرض اراء المؤمنين والمعارضين، وقد خلص في النهاية بعد هذا العرض الى ان التأمين التجاري بصورته الراهنة غير جائز شرعا وان عقده باطل، لأنه يقوم على الغر ونحوه من المخالفات الشرعية مشيرا الى ان المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الاسلامي الذي عقد بمكة المكرمة والذي اشترك فيه عدد كبير من العلماء وانتهى المؤتمر الى ان التأمين التجاري الذي تمارسه شركات التأمين التجارية في هذا العصر لا يحقق الصيغة الشرعية للتعاون والتضامن، لأنه لم تتوافر فيه الشروط الشرعية التي تقتضي حله. واشار د. القره داغي الى ان المعاصرين من العلماء والمجامع الفقهية اتفقوا على جواز التأمين التعاوني بنوعيه من حيث المبدأ الا اذا تعاملت شركته أو ادارته بالمحرمات مثل الربا ونحوه.

التأمين الإسلامي

عرض د. القره داغي صورتين للتأمين الاسلامي مشيرا الى ان التأمين الاسلامي السائد في عالمنا يقوم على مبدأ التعاون والتبرع ولكنه يختلف عن التأمين التعاوني من حيث الهيكلة الادارية والفنية حيث ان التأمين الاسلامي يشكل هيكلته الفنية والادارية اما على اساس الوكالة بالاجر أو الوكالة دون أجر. وأوضح د. القره داغي ان هناك عددا من الفروق الجوهرية بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني الاسلامي تتمثل فيما يلي:

أولا: من حيث التكييف والتنظيم:

ان الشركة في التأمين التجاري طرف اصيل تعقد باسمها، وتتملك الاقساط بالكامل، وتتحمل المسؤولية بالكامل في مواجهة المستأمنين.

اما الشركة في التأمين الاسلامي فهي وكيلة عن حساب التأمين أو عن هيئة المشتركين، فلا تعقد العقد باسمها اصالة، ولا تتملك الاقساط كلها ولا بعضها ولا تدفع من مالها شيئا الا على سبيل القرض الحسن المسترد.

ثانيا: من حيث الشكل:

الشركة في التأمين الاسلامي ليست المؤمنة ابدا، وانما المؤمنة هي (حساب التأمين). في حين انها هي المؤمنة وحدها في التأمين التجاري. وان المشتركين المستأمنين هم المؤمنون ايضا في التأمين الاسلامي. في حين انهم طرف مقابل للشركة المؤمنة في التأمين التجاري.